إنها بيد الأحداث التي رُئيت وشوهدت وكنتُ عليها شاهدا: هل كنت شاهدا عليها. هل كانت شاهدة علي؟ لماذا يتحدث ريكور عن "القدر التراجيدي للحقيقة"؟ عن أي حقيقة يتحدّث إن لم يكن عن تعريفها على أنّها يقينُ الوعي من نفسه على أنّه "أساس مطلق للحقيقة لا يتزعزع" (Fondamentum absolutum inconcussum veritatis).
عن هذا الوعي، الذي يؤسسه الكوجيتو، يقينا من نفسه لا مبدّد له (لأنّه ليس محتاجا إلى الخروج من نفسه أو إلى مغادرتها ليقيم الدليل على حقيقيّة ما يقول)، عن هذا الوعي يقول ريكور إنه ينخلي تفكّريا من سيادته ( في معنى إخلاء نفسه، وتخليتها) ومن سلطانه إرادة وتمثلا كما سيقول شوبنهاور من بعد ديكارت بقرنين. ما معنى تفكّريا؟ تفكريا تعني على نحو فيه مغادرة إلى العالم، ثم عودة من العالم إلى النفس. هذه الإيماءة العامرة بحركة العودة والرجوع، هي التي يمر فيها الفكر من طور النظران (spéculation) العابئ فقط بالمبدإ وبالأشياء (طاليس ناظرا ولكن غير عائد على نفسه، وغير "قائس" لحركته، الفيلسوف أفلاطون ناظرا صوب المثل والحقائق السرمدية، ولكنه في الوقت عينه مهزأة المارّة في كيفية عيشه اليومي ...) إلى طور التفكّر في النفس بما هي موضع هذا النظران. فكأنما يؤدي النظر في الأشياء إلى العودة منها إلى أنفسنا. هذه العودة هي التفكّر (Ré-flexion) الذي صار الآن يأخذ في الاعتبار إيماءات الوعي، وأدواته، وكيفية اعتباره لأدواته، فلا ينصاع لحقيقته التي صاغ يقينها رياضيا، بل يأخذ (يستبطن في عبارة ريكور) شهادة الحدث على اليقين. إن ثنائية هذه الإحداثية التي تجمع بين الوعي الذاتي المتيقن من نفسه من جهة، وبين شهادة الواقع، أو التاريخ، أو الحكاية، أو الذكرى، من جهة ثانية هي التي تدرج السرد كيفية جديدة في الحقيقة: لا حقيقة إلا بشهادة على الحقيقة، أو لنقل بشكل أقل تبسيطا، إن الوعي لم يعد سيدا: لقد بات موثقا إلى شهادة الأحداث عليه. هكذا يكتب ريكور في كتاب "مقالات ومحاضرات في التأويلية":
"إنّ هذا القدر التّراجيدي للحقيقة الخارجة عنّا، والقائمةِ في حكاية عارضة عارضة، هو الذي يمْكنه أن يرافق حركة التعرّي الذي ينْخلي بواسطته التفكّر من أوهام سيادة الوعي. هو ينخلي منها باستبطان جدلية الشهادة التي تستجمع أثرها في عارضية التّاريخ. إنّ لحظات الشهادة الجدليةَ الثلاثَ – الحدث و المعنى – مقاضاة شهادة الزور – الشّهادة على الأشياء التي رُئيت وشهادة الحياة، تجد صداها وأثر قرعها، في حركة تفكّر يتخلى عن سيادة الوعي."
أين تقع حركة السّرد إذن؟ وأين تقع حركة السرد الذاتي تحديدا؟ إنها تقع في منطقة مغادرة المفهوم، باعتباره قول الحقيقة المطلق، إلى الشهادة على المفهوم، هذه الشّهادة التي لسان حالها: هذا ما رأيت، هذا ما رويت. لا مكان هنا لأيّ من هذين: لا لتاريخ قبلي، ولا لوصف تحت إملاء الأشياء: الإمكان الوحيد المتبقي هو إملاء الوعي الذي تشهد له الوقائع، والتاريخ، وحتى التاريخ الصغير، والأحداث. ليست الرواية نقلا لما يقع، ولا كتابة تسجيلية: إنها أولا فكرة، وثانيا شهادة، وثالثا تكذيب بوسائل التكذيب لأي تزوير في الشّهادة.
فأما الفكرة فهي الحدث الذي تتعاظم حدثيتُه حتى يصبح قدرا. هو حدث كالأحداث، ولكنّنا "نجنح به" نحو ضرب من المعنى الفاتح، أو المعنى المانح، أو المعنى المعطي لمعانٍ ثوان: لعل ذلك هو ما سمّيته في غفلة من أي نظر فلسفي : "القدر". أن يتحول الحدث العابر إلى قدر فذلك أول حضور من حضورات المعنى التي يمر بها الحدث من مجرد الوقوع إلى الوقوع ذي الدلالة (هو ذا بين قوسين مبرر من أهم مبررات ترجمتي لعبارة الـ Facticité/ Faktizität الهيدغرية بعبارة "الحدثية"، أي بهذا الامتلاء الذي يبيت فيه للوقوع معنى).
لكننا رأينا، وشهدنا، وتابعنا، وأعدنا الشهود، ورأينا من جديد، وليست كتابتنا إلا كتابة الشهادة (témoignage) على هذه "الحدث/ المعنى" الذي هو القدر. ليس القدر إذن في أيّ معنى من معاني الحتم الذي يتحتّم على الإنسان، أو الذي يتحتّم عليّ تحديدا. ولذلك فلا المعنى الكلامي المتأرجح بين القدرية، والاعتزال والأشعرية، بدال عليه، ولا المفارقية المقابلةُ بين الاختيار والجبر، بواصفة له: إنه فقط حدث مانح للمعنى استشهدت عليه بحياة كاملة. وهذا الاستشهاد هو الشهادة التي تحدث عنها ريكور الذي سأعيد إيه الكلمة:
"جدلية الحدث والمعنى ؟ إنّ بنية كاملة لفهم النّفس تعلن عن نفسها هنا وتأمرنا بالتنازل عن فكرة التقوُّم الذَّاتيِّ للوعي ضمن زمنية محض محايثة : فنحن نوجَد لأننا نتأثر بأحداث تدركنا - في المعنى القوي للكلمة – بعضِ اللّقاءات التي تقع بمحض الصدفة، بعضِ المآسي، بعض السّعادات، بعض الأحزان، التي غيّرت كما يقولون، مجرى حياتنا تغييرا. إنّ مهمة فهم أنفسنا من خلالها هي مهمّةُ تحويل الصّدفة إلى قدر. الحدث سيّدٌ علينا. والأمر هاهنا في حياةِ كلِّ واحدٍ منّا كالأمر في المجموعات التي ننتمي إليها : فنحن رهينون مطلقا ببعض الأحداث المؤسّسة. هي ليست أحداثا تمرّ، بل هي أحداثٌ تدوم. هي في حدّ ذاتها أحداثٌ-أمارات. وأن نفهمَ أنفسنا هو أن نظلَّ نؤكّدها ونشهدَ بأنها وقعت".
ما هو زمن السرد إذن؟ إنه زمن العودة المتفكّرة التي تضع المعنى ثم تراجع الأحداث لعلّها تشهد عليها. ثمة ضرب من الهشاشة الملازمة لكلّ سرد: هو ليس صادرا عن الفكرة ولكنه يشهد عليها. ثمة تخارج أصلي بين الفكرة والحدث. لا بد من ترسيمية كاملة، لا بد من شيماتيزم كامل يجمع بين الحدث وبين الفكرة. إن صعوبة هذا التنسيق متأتية من أن الحدث ليس مصداقا للفكرة، وليس تجسيما لها: إنه فقط شهادة، قد لا تكون مرادفة للحدث، يكفيها أن لا تعارضه، يكفيها أن تفي ببعض ما فيه. إن شهادة الحدث على الفكرة ليست مرادفة للفكرة . إنها فقط شهادة على أنها ممكنة. ثمة نوع من اختيار الهوية راجع إلى الراوي (السارد)، وهذا الاختيار محض اختيار له، ومحض حرية. هو لا يحتاج إلى برهان .. إنه يحتاج فقط إلى الإقرار بأنه ممكن. وهذا الإقرار هو فقط إجازة للقول. ما يكون السرد ساعتها؟ إنه إجازة بالقول. ليس زمن السرد إذا زمنا لاحقا على الحدث، ولا سابقا للسرد. إنه زمن مضارع له، لكأنما يوشك الحدث في كل مرة أن يغادر الشهادة. لكأنما تذكره الفكرة في كل لحظة بأنها غير بعيدة عنه. قال سقراط في فيدون: "أن الأمور قد جرت على نحو ما بسطت .. فذلك ما لا يليق بذي عقل أن يقول به، وأن يتمسك. وإنما هي جرت هكذا، أو على نحو يشبه أن يكون هكذا". أين يقع زمن السرد إذن. إنه يقع في منطقة هي في الآن نفسه ظل للحدث (لأنه لا يقع ولكنه يروى)، وظل للفكرة التي لا تحوز من تحققها وصدقها ويقينها إلا مرتبة سأسميها هنا "لعلّية". ما نرويه هو دائما ما نتخيله ولكننا – ربما بموجب انشداد مرضي إلى الواقع والحقيقة – نستشهد عليه الحدث.