تهاطلت في نهاية الأسبوع الفارط الوثائق والتقارير حول الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد ،فبعد النسخة الثانية لمشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020 أصدر المعهد الوطني للإحصاء النشريتين الثلاثيتين المنتظرتين دوما : النمو والبطالة للثلاثي الثالث لهذه السنة ..
ما الذي يمكننا أن نقوله عن هذه النسخة الثانية المعدلة لمشروع المالية التعديلي ؟ لا شيء أو يكاد فهنالك فقط إرجاء خلاص بعض ديون الدولة وهي لفائدة شركات عمومية متعلقة بسياسة دعم المحروقات أو المواد الأساسية والتقليص بحوالي 2.2 مليار دينار من حجم الاقتراض من السوق الداخلية ليناهز جملة الاقتراض الداخلي 12 مليار دينار (11948 مليون دينار ) بعد أن كان مبرمجا في حدود 2.4 مليار دينار فقط ، ثم ان الدولة ستكون قد اقترضت 2.6 مليار دينار بالعملة الأجنبية من البنوك المحلية وأصدرت رقاع الخزينة بقيمة تتجاوز 9.3 مليار دينار بين رقاع الخزينة قصيرة الأمد (52 أسبوعا) وأخرى قابلة للتنظير ،أما قصة تمويل ثقب الميزانية المقدر بـ8.1 مليار دينار بجزء من السوق المالية العالمية أو القروض الأجنبية فكله مجانب للحقيقة ولا أثر له في الوثيقة التي قدمتها وزارة المالية ..
نعود إلى الاقتصاد الحقيقي الذي سجل انكماشا خلال الثلاثي الثالث بـ%6 بالانزلاق السنوي (أي مقارنة بالثلاثي الثالث لسنة 2019) وهكذا يكون معدل الانكماش الاقتصادي للأشهر التسعة الأولى لهذه السنة في حدود %10 وهذا ما يعني أن النسبة السنوية للانكماش قد تجاوز بنقطة أو أكثر النسبة المفترضة بـ%-7.3 وانه ينبغي ان يحقق الثلاثي الرابع نسبة إيجابية حتى لو كانت ضئيلة لنكون قريبين من التوقعات الرسمية ولكن الأرجح هو أن يتجاوز تراجع الاقتصاد التونسي لكامل سنة 2020 عتبة %8.
هنالك خبر سار إلى حد ما وهو تمكن أكثر من مائة ألف شخص فقدوا شغلهم أو مواطن رزقهم خلال الثلاثي الثاني قد تمكنوا من استعادته خلال هذا الثلاثي الثالث وهكذا تراجعت البطالة من %18 إلى %16.2 وابتعدنا عن كابوس الاقتراب منن عتبة %20 أي بطالة إضافية تتجاوز مائتي ألف شخص ..ولكن مع هذا فإنّ حوالي سبعين ألف شخص فقدوا مواطن شغلهم ورزقهم بفعل جائحة الكورونا لا يبدو أنهم سيعودون إلى عالم الشغل في القريب العاجل ..
وكالعادة تضرب البطالة النساء أكثر من الرجال (%22.8 مقابل %13.5) والشباب ما بين 15 و24 سنة إذ تتجاوز نسبة البطالة عندهم ضعف المعدل الوطني بـ%35.7 وهنا لا فارق يذكر بين الإناث والذكور (%36.6 للفتيات و%35.4 للفتيان) ثم يعود الفارق بقوة بين الجنسين عندما يتعلق الأمر بأصحاب الشهادات العليا %17.6 للذكور مقابل %40.7 للإناث .
نحن هنا أمام بعض الاختلالات الهامة في ولوج مواطنينا إلى سوق الشغل ،ولكن المقياس الأساسي لحيوية مجتمع لا يقاس بنسبة البطالة بل بنسبة النشاط عند السكان البالغين أكثر من 15 سنة .
لأول مرة تعطينا النشرية الفصلية للمعهد الوطني للإحصاء حول مؤشرات التشغيل والبطالة هذا المؤشر الهام جدا «نسبة النشاط» والذي نجده قد بلغ في الثلاثي الثالث لهذه السنة %47.7 ،ولكي نتمكن من تفهم أعمق لهذه النسبة سنقارنها بمثيلاتها في دول أخرى إذ نجدها تتجاوز %80 في بلدان كـ :اسلندا وسويسرا والسويد ، وهي قريبة جدا من هذا السقف
في الدانمارك والنرويج وهي كذلك بمعدل %73.2 في دول الاتحاد الأوروبي ، أما ضعف هذه النسبة في بلادنا فمرده بالأساس ضعف نسبة النشاط عند النساء بـ%26.7 بينما نجده في معدل معقول عند الرجال (%69.8) كما تنخفض هذه النسبة عند الشباب (15 - 24 سنة) إلى %19.7 بينما تتجاوز %60 في سويسرا وتتجاوز النصف في جل دول أوروبا الشمالية بل وتصل %45.6 في الإمارات العربية المتحدة ..
بعبارة أخرى تخسر بلادنا أكثر من مليوني شخص من نساء وشباب كان يمكن أن يكونوا ضمن السكان المشتغلين أي عوض ثلاثة ملايين ونصف من المشتغلين حاليا في تونس كان بالإمكان – نظريا – أن يتجاوز هذا العدد خمسة ملايين مشتغل ومع كل موطن شغل جديد قيمته مضافة وثروة مخلوقة وازدهار اكبر وصلابة أكثر لنسيجنا الاقتصادي والاجتماعي أيضا .
لقد جاءت نشرية الشغل والبطالة للمعهد الوطني للإحصاء ثرية بالمعطيات هذه المرة ،ونتمنى لو تقدم لنا مستقبلا كل هذه المعطيات وفق التوزيع الجغرافي والجندري والمعرفي حتى نتمكن من وضع الإصبع على مواطن الخلل بدقة أكثر وحتى نفكر سويا في تلافيها فثروتنا الوحيدة تكمن في العمل لا في شيء آخر سوى العمل .