على رأس الأمانة العامّة للحزب، بعد أن أعلن سليم الرياحي عن استقالته من الأمانة العامة الّتي ارتقى إليها إثر اندماج بين حزبه وحزب نداء تونس ،و ترك كل شيء قبل أن «يسخن كرسيّه» كما يقال.
ومن المفارقات أن يحصل هذا في حزب كان حاصلا على الأغلبية في انتخابات 2014 وأصبح مؤسّسه، رئيسا للجمهورية في نفس الفترة ، الّتي كان بالإمكان أن يتمّ فيها بناء حزب صلب في هياكله و قابل إلى أن يستوعب قاعدة متسعة لفئات مختلفة يجمعها شعار تجذير الديمقراطية الناشئة و توفير سبل التنمية و الرخاء و ارساء دعائم جمهورية مدنية في كنف دولة القانون والمؤسسات.
وإن كان حزب نداء تونس يسعى إلى انتداب أمين عام له ، فإن أحزابا أخرى تبحث عن قائد لها ترشحه للإنتخابات الرئاسية القادمة، وتعيش مخاضا عسيرا مخافة أن يكون الإعلان عن مرشحها سببا لتصدّعها.
هذا ما تشهده الساحة السياسية اليوم و قبل أشهر من موعد انتخابات 2019 ، و هو أمر يثير الحيرة ، بسبب التذبذب و عدم وضوح الرؤية بخصوص الاستحقاقات القادمة رغم ادعاء عدد من القادة امتلاكهم الحلول الناجعة لإخراج البلاد من التأزم الإقتصادي والسياسي.
جزء كبير من هؤلاء «القادة» كانوا بالأمس أعضاء في حكومات و في الصفوف الأمامية لقيادات حزبية ، و لكن نراهم اليوم يتداولون على المنابر و يتابعون الأحداث كـ«الغرباء» للتعليق عليها و الانخراط في بكائيات تزيد في تنفير القواعد عنهم و في بث مزيد من الحيرة والخوف .
لقد كوّنوا أحزابا لا تعكس التنوّع في المجتمع التونسي ، و لا حاجة لتونس إليها ، لأن خيارات البلاد و أنماط تنميتها لا يمكن أن تكون في حجم العدد الهائل من التنظيمات الحزبية، و هو ما يقيم الدّليل على أن التعدّد لا يقابله تعدّد في البرامج و الخيارات و المناهج ، أو غاية جادّة لخدمة مصلحة البلاد، و إنّما وراء هذا التعدّد طموحات شخصية ورغبات ذاتية بلا رصيد.
لذلك تصبح القوقعة الّتي يتردّد صداها على المنابر الاعلامية ، مدعاة للسخرية، لأن جانبا كبيرا من متصدّري المشهد يتربعون على الوهم ،بعيدين عن هواجس القواعد الواسعة ، الّتي تجدها تغرق في تدبّر أمورها الحياتية بصعوبات تزداد يوما بعد يوم.
إن القيادات المباشرة للسلطة أو الّتي باشرت السلطة في السنوات الأخيرة فشلت ، و لكنها تسعى إلى إقناع المواطنين بأنها قادرة على إخراج تونس من الأزمة الّتي هي فيها ،بمحاولة زرع الأمل في المستقبل ، متناسية أن رصيدها الإقتصادي سلبي للغاية ، و أن رصيدها الاجتماعي يتضاءل بسبب عجزها عن تقديم حلول ينفرج بها الوضع العام .
من هنا يُطرح ُ التساؤل عن أي حلول سيأتي بها الشاهد على رأس حزب جديد و بواسطة شخصيات كانت بالأمس القريب في الصفوف الأمامية لحزب نداء تونس أو في تشكيلات جديدة خرجت من رحمه . و كذلك الأمر بالنسبة لحزب النهضة ، الّذي يتبجح بقوّته و الحال أّنه ماسك اليوم بجانب هام من السلطة ،و سبق أن باشرها في فترة الترويكا و لم ينجز شيئا ، بل كان وراء سياسة التفكك الّذي عرفته هياكل الدولة و وراء اختراق هياكلها و هو محل اتهام ببعث الجهاز السري الّذي كان وراء الاغتيالات السياسية وفي القوات الأمنية و العسكرية.
فالمقدمون على دخول التنافس الانتخابي لن يكونوا قادرين على الإقناع بامتلاكهم مشاريع حلول للأوضاع المتردية ، و لا رصيد لهم في أقصى الحالات غير القول بأنهم كانوا وراء تجنيب الدولة مزيدا من الانحلال. بل نراهم يعملون على ترك الفراغ حولهم، كما فعل بن علي، لذلك قلّ أن يعرف المواطنون غير وجوه «الزعماء» الّذين يحرصون على الظهور الدّائم في المنابر، ويغيّبون بقية الموالين لهم ، بدعوى أن المنابر لا ترضى بغيرهم . هذا الفراغ لم تشهده تونس في فترة حكم بورقيبة ، الّذي رغم حرصه على القاء الخطب «المنهجية» كان الشعب يستمع لخطب الباهي الأدغم والهادي نويرة وأحمد بن صالح ومحمود المسعدي و الهادي خفشة ومحمّد مزالي و الهادي البكوش والشاذلي العياري والشاذلي القليبي وغيرهم ...
في هذا الوضع الّذي تتشرذم فيه المعارضة ويتسع فيه الفراغ ، بقيت أغلب التشكيلات الحزبية مجرّد أجهزة فوقية ، تركت القواعد لمصيرها و هو ما تسبّب في إنقطاع الحبل الرابط بين القاعدة و القمّة . و رغم تفطن بعض القيادات إلى الحاجة إلى التعبئة الدّائمة ، فإن الافتقار لتقديم البديل أو إستعراض ما أمكن انجازه لفائدة المواطن ، دفع إلى الإنكماش والتقوقع . و أقصى ما أمكن التوصل إليه التواصل مع قادة الهياكل الجهوية دون أن يقع النفاذ إلى القواعد الأساسية الّتي لم يعد لبعضها وجود في بعض الجهات والمناطق الصغرى والقرى والأرياف.
هذا الوضع غيّب السند الحزبي القاعدي لدى أغلب الأحزاب ، و خلق فراغا في كل المواقع وقع إستغلاله بالخصوص من حزب النهضة ، الّذي سيجد له سندا في الاستحقاقات القادمة من التشكيلات التي تهادنه و التّي تلتقي معه في الأهداف الاستراتيجية المتمثلة في الأحزاب ذات المرجعيات الدينية المتشدّدة الّتي وقع التسامح معها رغم معاداتها الصريحة للدولة و الدستور .
لذلك و كما سبقت الإشارة إلى ذلك في هذا الحيّز فإن أغلبية المجتمع السياسي يشخص الواقع ، ولكنّه يتوجّه نحو الحلول الانعزالية ، بالرّغم من توفر إمكانيات تشكيل تجمع ديمقراطي من أجل جمهورية مدنية ، تلتف حول شخصية قادرة على التجميع و «برنامج يتوفّر فيه الأدنى للحفاظ على مكاسب الدولة الحديثة وقيمها الجمهورية وعلى مكاسب لفيف مجتمعها المتفتح و الحداثي الطامح للتقدمّ و إخراج البلاد من الخصاصة والتخلف».