كل الآذان والأذهان خاصة عندما ندرك أن وقفتنا لتونس، رغم كل المجهودات والمنجز الواضح، مازالت مترنحة، وأن نقائص هيكلية مازالت تعيق الأداء وأن المجموعات الخارجة على القانون من الجماعات الارهابية الى المدارس الطالبانية المفرخة للتطرف الى لوبيات الفساد، الى شبكات التهريب كلها مازالت ناشطة بل ومزدهرة أحيانا وأننا نبقى كالحيارى ودون أية قدرة على ردّ الفعل أمام العجز التجاري الكارثي والانهيار المتواصل للدينار...
أمام كل هذا وغيره ندرك أننا لم نعرف بعد كيف نقف لتونس بكل جدية..
لا ينكر أحد أن مسائل عدة قد تحسنت خلال هذه السنوات الأخيرة وخاصة في المقاومة الأمنية والعسكرية للجماعات الإرهابية وفي التقليص النسبي من بلطجة المنحرفين ولكننا نكتشف أن الدولة لم تتعاف بعد بما فيه الكفاية وأن وقفتها لتونس مازالت محدودة.. وحدها دولة ناجزة فاعلة عادلة قادرة على ايقاف كل هذا النزيف وتحصين البلاد من كل هذه المخاطر ودفعها الى العمل والنمو والرقي...
الدولة الناجزة وذات الفاعلية القصوى ليست أمنية لبعض السياسيين ولعموم التونسيين، انها شرط كل اصلاح جدي عاجل وآجل ودونها لا تتم المراكمة الايجابية للمظاهر الجيّدة المتعددة في البلاد..
الدولة عند الفيلسوف الألماني الكبير «هيغل» هي غاية العقلانية وفاعليتها نحن لسنا في العالم المثالي بل في العالم الحقيقي والعقلانية كمبدإ نظري وكممارسات عملية (المعقوليات) هي التي تؤسس للدولة.. والعقلانية هنا تعني الفاعلية القصوى ووحدة الهدف والحركة، تماما كمحرك السيارة لا يكون ذا فاعلية إلا متى تناسب استهلاكه مع قوته ومتى انتفى منه كل تسرّب لها...
وعلى عكس ما يعتقده البعض فالديمقراطية تتفوق على الاستبداد لأنها تمثل الفاعلية القصوى للدولة بينما لا يحقق الاستبداد فاعلية نسبية إلا بهدر جزء من طاقات المجتمع، ولكن في كل المراحل الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية تفقد الدولة فاعليتها النسبية التي كانت عليها زمن الاستبداد ولا ترتقي بعد الى الفاعلية التامة التي توفرها ديمقراطية مستقرة..
وتونس اليوم في هذه الوضعية بالضبط وهذا لا يتعلق بحكومة بذاتها أو بأغلبية بعينها ولكن لكل قبائل تونس اليوم دور في اضعاف الدولة وانهاكها ولكن ما أضعف الدولة أيضا بعد الثورة هو الثقافة السياسية لكل الحكومات المتعاقبة والتي يمكن أن نلخصها في مفهوم واحد «المحاصصة الحزبية»..
لقد أفرزت المحاصصة الحزبية منذ زمن الترويكا معطى جديدا وهو تعدد الولاءات داخل الأجهزة التنفيذية للدولة وتغليب الولاءات في كل المستويات على الكفاءات ودخول الزبونية السياسية إلى أجهزة الدولة...
لا نريد أن نقول هنا بأن وحده حكم التكنوقراط قادر على ارجاع عقلانية الدولة وحيادها ولا أنهم أجدر بالحكم من السياسيين.. ما نريد قوله فقط هو أن المحاصصة الحزبية تعني تفتيت الدولة من الناحية الرمزية، ففي نظام شبه برلماني كما هو الحال في تونس ينبغي أن يكون تعيين كل موظفي الدولة من الاختصاص الحصري لرئيس الحكومة دون ترشيح من أحد أو توصية من أي حزب أو فرض إسم بعينه في منصب مخصوص، هذا إن لم نفترض نية أحزاب الحكم أن تتغلغل في أوصال الدولة كما حصل ذلك منذ سنة 2011..
حكم الأحزاب لا يعني حكم أشخاص الأحزاب وكوادرها بل يعني حكم برامجها وأفكارها وشتان ما بين هذا وذاك..
محصلة كل هذا أنه أصبحت لدينا دولة فاقدة للفاعلية المطلوبة والجزء الأساسي من هذه الفاعلية هو سلامة تسلسل المعلومة داخل منظومات الدولة وسلامة تسلسل حلقات الأوامر والمحاصصة الحزبية وتغليب الولاء على الكفاءة ضرب منظومتي المعلومة والأوامر في العمق وخلق داخل مختلف أجهزة الدولة نوعا من انفصال الأوصال أضعف امكانية الدولة على المتابعة والانجاز ونجم عن هذا أنها أصبحت مخترقة من قبل كل المجموعات الخارجة عن القانون من لوبيات الفساد الى المشاريع الطالبانية فالدولة لن تستعيد فاعليتها القصوى التي تسمح لها بمقاومة كل هذه الآفات إلا متى تخلصت من هذه الشوائب التي أصابتها قبل الثورة وبعدها القائمة على الزبونية والولاء دون معيار الكفاءة والعقلانية الصارمة في التصرف في المعلومة والقرار والمتابعة..
هذه هي الشروط الدنيا لكي تتمكن الدولة من فاعليتها حتى تقف هي لتونس وتعطي المثل لكل التونسيين..
«يلزمنا ناقفو لتونس» هو شعار المرحلة ولاشك وبداياته في ارساء الدولة بها هي عقلانية المبدأ وعقلانية التطبيق.