وحفز الهمم لمزيد العمل بنزاهة و حياد واقتدار .
و ساد الاعتقاد أن الإصلاح سينطلق من التفاف العائلة القضائية حول اللّبنة الأولى المتمثّلة في التجربة الجديدة للمجلس الأعلى القضاء لخوض معركة التغيير الجذري و العميق لإرساء منظومة قضائية تضمن استقلالها و تضمن في نفس الوقت نجاعتها و عدم إخلالها بالتوازن بين مختلف السلطات و ذلك بآليات قانونية تكسب قبول وثقة الجميع.
و لكن ظهر بعد الدخول في أول سنة قضائية في ظل الهيكلة الجديدة للمجلس الأعلى للقضاء ،بعض التبرم من عدد من القضاة بخصوص الحركة القضائية الّتي أنجزها المجلس بعجلة في ظروف البدايات الصعبة ، ثم جاء التبرّم من المجلس نفسه ، من العراقيل الّتي وصلت إلى حد ملامسة حالة تنذر بالتوقف عن «النشاط كليا كسلطة عامة بالدولة مجسّدة للسلطة القضائية وما يستتبع ذلك من تداعيات وخيمة على استقلالية القضاء وحسن سير مرفق العدالة عموما» إذا تواصل الحال على ما عليه حسب ما جاء في البلاغ الّذي صدر في نهاية الأسبوع المنصرم عن الجلسة العامّة للمجلس ،و تمّ توجيهه إلى الرأي العام الوطني و إلى كافة المعنيين بالشأن القضائي .
و لو أن البلاغ لم يأت على كل الصعوبات ، فقد أبرز منها تعطّل صدور أوامر التسمية في رتبة مستشار بالمحكمة الإدارية الّتي تمّ توجيهها لرئاسة الجمهورية منذ شهر جوان 2017. و قد إنعكس هذا التعطيل حسب نص البلاغ سلبا على عمل المحكمة الإدارية لحاجة هيئاتها الحكمية الشديدة لقضاة في رتبة مستشار.
و بما أن عصب النشاط و محرّكه يكمن في الموارد المالية فإن المجلس جُوبه «برفض وزارة المالية إتّخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لتمكين المجلس من التصرّف في الإعتمادات المالية المخوّلة له في ميزانيته المصادق عليها بقانون المالية لسنة 2017. وهو ما جعل المجلس يعمل بدون موارد منذ 28 أفريل 2017.» و في نفس السياق ، إمتنعت رئاسة الحكومة حسب نفس البلاغ ،عن «نشر القرار الصادر عن الجلسة العامة للمجلس والمتعلق بضبط المنح والإمتيازات الراجعة للأعضاء طبقا لأحكام الفصل 4 من القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية بغرض تعطيل تنفيذه.» (أنظر نص البلاغ).
هذا الوضع جعل المجلس يعبّر عن موقف منتقد للدولة الّتي تتحمّل واجب تمكين المجلس من الموارد البشرية والمالية الضرورية لسيره، بل إعتبر ذلك يشكّل إنتهاكا خطيرا لمبدأ التفريق بين السّلط والتوازن بينها الذي جاء بتوطئة الدستور التونسي والذي يقوم عليه النّظام الجمهوري بكامله .
هذا البلاغ الأوّل من نوعه في المسار الجديد للمجلس الأعلى للقضاء ،يثير التساؤل عن مستقبل التعامل مع هذا الهيكل الجديد ، الّذي كان مطلبا للقضاة و المحامين و لكل الحقوقيين و المجتمع المدني ، على خلفية إعتباره هيكلا ضامنا لإستقلال القضاء و مكرسا لسلطته .
هذه السلطة الّتي أصبحت محط الأنظار والإنتظار في هذه الفترة ، الّتي تواجه فيها تونس مقاومة الإرهاب و التهريب والفساد ، هي الّتي ستعملُ الآليات الناجعة لحسمها طبق القانون. كما أن السلطة القضائية هي الّتي تمسك بمختلف الآليات المتصلة بممارسة السلطة عبر الإنتخابات ، ولها دور محوري في الإستقرار و تركيز الديمقراطية .
لكن لن يتحقّق كل ذلك دون ترتيب أمور القضاء من الدّاخل ،و تخليصه من عوائق سوء تنظيمه ومن مخلفات الفساد و بؤره،هذا من ناحية ،و من ناحية أخرى ، بتمكينه من الوسائل الكفيلة بتحقيق إستقلاليته و بتوفير مستلزمات نشاطه و إمكانيات إصلاح أوضاعه .
و توفير الموارد البشرية و المالية و عدم تعطيل المسار العادي للمجلس الأعلى للقضاء لا يكفي وحده لفرض التغيير المطلوب ، بل على شركاء القضاء ، ومساعدي القضاء و منظمات المجتمع المدني المهتمّة بالشأن الحقوقي والقضائي أن يساهموا في التغيير المنشود لإصلاح القضاء ، لأن المجلس الأعلى للقضاء ليس غاية في حدّ ذاته ، بل هو وسيلة لتركيز سلطة قضائية عادلة ومنصفة و محايدة وفاعلة في تكريس سيادة القانون والمؤسسات.
لذلك على الدولة بمختلف مؤسّساتها أن تدرك أهمية هذا الهيكل في فرض سيادتها وأن تعي ضرورة العمل على تفعيل دوره ، كما على هذا الهيكل أن يدرك ، أنّه لن يدرك غايته في إصلاح القضاء دون إشراك كل الأطراف المعنية و في مقدّمتها المحاماة الّذي جعلها الدستور شريكة في إقامة العدل ، لكي يصلح شأن القضاء و شركاؤه أيضا ، لكسب الثقة فيه وتغيير الصورة الّتي إتسم بها منذ سنوات.