لم أكُنْ أتصوَّرُ أنَّ سقيفةَ الدّارِ الضَّيِّقةَ ستُسفِرُ عن مثلِ هذا الفضاء الفسيحِ والمعمار التّقليديّ الرّائع الذي يُكوِّنُه. السّقيفةُ يليها مباشرةً رواقٌ رحْبٌ مُزركَشٌ بإتقانٍ يُفضي إلى ساحةِ الدّار التي تفتحُ إليها ثلاثةُ بيوتٍ، لكلِّ بيتٍ بابٌ وشُبّاكانِ. وقد أحاطَ بكلِّ بابِ وشُبّاكٍ منها إطارٌ مِن الخزفِ النّابليّ الجميل. استقبلَنا أعضاءُ جمعيّة «أسبيس» المُشرِفُونَ على تنظيمِ الحفلِ بحفاوةٍ وجعلونا في مكانٍ أماميٍّ ورحّبوا بنا بما نحنُ أهلُهُ وزيادةٌ مِن كرَمِ الضِّيافةِ وحُسنِ القبولِ والوِفادةِ.
في الرّكن الشّرقيّ من فناء الدّار انتصبت فرقة موسيسقيّة من الأطفال والشّباب بقيادة الأستاذ سليم الهوّاريّ. وكانت تعزف ألحانًا لمقاماتٍ موسيقيّةٍ تونسيّة، وقد امتزجت هذه الألحانُ بتراتيل صلاة التّراويح المنبعثة من صومعة جامع «سيدي بوضاوي» المذكور. وفي الرّكن الغربيّ المقابل جلست بناتُ الشّهيد عبد العزيز الخوجة. على خُطوطِ وُجوهِهِنَّ مزيجٌ نادِرٌ مِنْ ملامِحَ تُركيّةٍ وعربيّةٍ لمْ يُفْلِح الزَّمَنُ المُتقادِمُ في إخفائِها بين خُطوطِ التّجاعيدِ. أجسادٌ مُثْقَلَةٌ بِما حُمِّلْنَهُ مِن ذاكرةٍ جريحةٍ تَسَعُ الأرضَ والسَّماءَ، ومِنْ أتعابِ طُفولةٍ قاسِيةٍ عِشْنَها في غيابِ أبٍ عاطِفٍ قتَلتْهُ يدُ الغدْرِ في آخِرٍ يومٍ مِنْ شهرِ جانفي 1952، فتركتْ في النُّفوسِ لوعةً لا تنتَهِي.
المداخلة الأولى التي ألقاها الأستاذ محمّد الصّادق بن عبد اللّطيف كان كافِيةً لنزول الدّمعِ مِدْرارًا مِنْ أعيُنِ بناتِ الشّهيدِ وجريانِه بين ثنايا تلك التّجاعيدِ. فقد تحدّث فيها بعاطفةٍ قويّة عن ملحمتِه النّضاليّة وتضحياتِه مِن أجل الوطن والاستقلال وإيمانِه القويّ بحزب الدّستور ودفاعِه المستميتِ عن زعيمِه «الحبيب بورقيبة» وصولا إلى حادِثةِ اغتِيالِه مع زميلِه في الكفاح «حمّادي الغربيّ». ثمّ تلت ذلك مداخلات: الأستاذ محمّد البلاجيّ والسّيّدة نعيمة الخوجة التّونسيّ ابنة الشّهيد والشّيخ حمدة الانقليز والسّيّد امحمّد الدّريديّ قائد الكشّافة بقليبية. وقد كانتْ كُلُّها مُجْمِعةً على وطنيّة الشّهيد ومحبَّتِه للبلادِ والعِباد، وللأرض التي نشأ بها ونذر فيها نفسَهُ مِن أجلِها. كما أجمعتْ أيضا على الفراغِ الهائلِ الذي أحدثَهُ غيابُهُ المُفاجِئُ بين أهلِهِ وناسِه وذَويهِ إلى اليوم.
• جمعيّة «أسبيس» Aspis بقليبية
جمعيّة «أسبيس» التي تكوّنت حديثا في قليبية، يعودُ فضلُ تأسيسِها إلى نُخبةٍ مِن مُثقَّفي المدينة الذينَ حرَّكتْهُم الحميّةُ الوطنيّةُ والاعتزازُ بالانتِماءِ إلى هذه المدينة السّاحليّة التّونسيّةِ الزّاخِرةِ بالتّاريخِ والحضارةِ والجمالِ، والذينَ عَزَّ عليهِمْ أنْ يتمكَّنَ مِنها الإهمالُ والنّسيانُ واللاّمبالاةُ فيجعَلَها غُفلاً عن التّعريفِ. وقد اختارت الجمعيّةُ عن طريقِ مُؤسِّسيها (نجلاء بوريال عضو المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ- محمّد البلاجي- محمّد الصّادق بن عبد اللّطيف وخليل البلاجي وغيرهم...) أنْ يكونَ مِن أهدافِها الأساسيّةِ التّعريفُ بقليبية وخصائصِها الثّقافيّة والتّاريخيّة والحضاريّة، وهو ما تَدُلُّ عليه التّسميةُ التي أُطلِقتْ على الجمعيّة. فـ»أسبيس» هو اللّفظُ الذي سمّى به الإغريقُ قليبية منذ عهودٍ قديمةٍ. وهي كلمةٌ تعني في ما تعنيه باليونانيّة: «الدِّرْع» أو «المِجَنّ» (Bouclier) على اعتبارِ ما يُميّز قليبية وقلعتَها التّاريخيّة من مَنَعَةٍ وشُموخٍ على امتدادِ الأحقابِ والعصور. وقد سمَّى القائد اليونانيّ «أغاتوكول سَرَقُوسَةَ» (Syracuse Agathocle de) القلعةَ يومَ احتِلالِها باسم «أسبيس»(2). أمّا تسمية «قليبية» فهي محاكاة عربيّة لكلمة «كلوبيا» اللاّتينيّة (Clypea أو Clupea) التي تعني أيضا «الدّرع»، وقد ظهرت هذه التّسمية إلى الوجود في العهد الرّومانيّ البيزنطيّ (533 - 647 م).
اختارت جمعيّة «أسبيس» أن تبدأ أنشطتَها الصّيفيّةَ بِتكريم الشّهيد عبد العزيز الخوجة تحت عنوان: «لمسة وفاء إلى روح شهيد قليبية عبد العزيز الخوجة». وهو النّشاط الثّاني لها منذ تأسيسِها. فقد قامت يوم الأحد 27 مارس الماضي بتكريم الشّاعر نور الدّين صمّود والموسيقار الشّابّ وائل صمّود. كما اختارت أن يكونَ هذا اللّقاءُ في منزل الشّهيد بقليبية تكريما لروحِه ووفاءً لنضالِه مِن أجل الحرّيّة والاستقلال.
• سيرة صاحب «القشابيّة»
لم أكُن أعرِفُ شخصيّةَ صاحِبِ الدّارِ قبل قُدومي إلى تظاهرة التّكريم إلاّ خبَرًا ونقلا عن كبارِ السّنّ. وقد سألتُ منذُ سنواتٍ بعضَ الأخباريّين الذين يحفظون أخبار الحركة الوطنيّة في جهة قليبية عن شخصيّة عبد العزيز (شهر عزيّز) الخوجة فارْتسمتْ لها في ذهني صورةٌ غيرُ مُكتمِلةٍ. وأهمُّ ما عَلِقَ بذهني آنذاك هو أنّه كان مسؤولا عن التّنسيق بين المقاومين والمناضلين بين قليبية وحمّام الأغزاز وأزمور والشّرف وغيرها من المدن والقرى المُحيطة بقليبية، وأنّه كان معروفا أيضا بـ»قشابيّتِه الحنايشيّة»، أي قشابيّة ذات خطوط سوداء وبيضاء، وكانت قُبّعتُها مائِلةً دائِمًا. فهي لِباسُه الذي يُميِّزُه من النّاس في المظاهرات والاجتماعات والاحتفالات وغيرها...
كما لم تَكُن رحلةُ العودةِ إلى ذاكرةِ شهيد قليبية «عبد العزيز الخوجة» أمرا هيِّنا كما كُنّا نتوقّع. فبرغمِ الأثرِ العظيمِ الذي خلَّفتْهُ مسيرتُه النّضاليّةُ على أرضِ قليبية، وبرغمِ الدّويّ الهائلِ الذي تركَتهُ في أرجاءِ سمائها، وبِرغمِ المحبّة التي تطوي لهُ عليها صُدورُ أهاليها إلى اليوم، فإنَّ عمليّة التّوثيق وجمع المعلومات في شأنه كانت عسيرَةً، لقلّتِها أوّلا ولتفرُّقِها وتشتُّتِها بين صفحاتِ الجرائدِ القديمة ووثائق الأرشيف الوطنيّ، وبين الرّصيد الشّفويّ الذي ما زال عالِقًا بذاكِرةِ العائلةِ أو بحافِظةِ بعضِ كبارِ السّنّ في قليبية مِن مُعاصِريه.
أمّا الصُّحُفُ فلم نعثُرْ له فيها على أثرٍ إلاّ ما كان مُوَثَّقًا على صفحاتِ جريدة «الحرّيّة» (ثمّ «لواء الحرّيّة» في ما بعدُ) التي كان الدّستوريّون ينشرون فيها أخبارَهم وتحرُّكاتِهم بعد منعِ جريدتِهم الرّسميّة «العمل»، وتحديدًا في المُدّة الفاصلة بين سنتيْ 1948 و1951. وهما في الحقيقةِ مقالانِ يتيمانِ: الأوّلُ بتاريخ يوم الأحد 1 أكتوبر 1950 يحمل عنوان: «لجنة الدّفاع عن مصالح السّكّان بقليبية» وفيه إعلان عن تشكُّل هذه اللّجنة برئاسة صاحِبنا السّيّد «عزيّز بن عليّ الخوجة».
والمقالُ الثّاني مؤرَّخ في يوم الأحد 22 أكتوبر 1950 يتعلّق بتعريف تلك اللّجنة وبيانِ أهدافِها ومهامِّها. وهي أهدافٌ ومهامُّ تجمع بين الصّحّيّ والاجتماعيّ والتّعليميّ والأخلاقيّ... في مزيجٍ عفويّ وطريفٍ. فهي تسعى إلى «التّخفيف عمّا يلحق الفقراءَ من تعاسة المرض ومكافحته بما تقدر عليه من سلاحٍ حتّى يتمكَّنَ الفقيرُ المسكينُ من مقاومةِ المرضِ بما تُسعِفُه به لجنةُ الدِّفاعِ عن مصالح السّكّان». كما تسعى في جُملةِ ما تسعى إليه أيضا إلى «تولّي الدّفاع بقدر الإمكان عن بلدةِ قليبية، ولِتُنبِّه أولي الأمرِ بوجوبِ نظافتِها وقطعِ بيع الخمر للمُسلمين !! والاهتمام بتعليم الأطفال وإلفات نظر إدارة العلوم والمعارف إلى الحالة السّيّئة التي عليها ناشئةُ قليبية، وإلى وجوبِ نقلِ الصّبية المزاولين للتّعليم إلى محلاّتٍ صالِحةٍ من النّاحية الصّحّيّة ونقلهم من تلك السّقائف والقراجات ولما يلحق الأهالي من تعدّيات المُعتدين وتعسُّف المُتعسِّفين».
ولم يكن النّضالُ ذا طابعٍ اجتماعيّ وخيريٍّ فحسب، بل كان نضالا وطنيًّا متكامِلا. ففي المظاهرة المشهودة التي شهدتها قليبية كغيرِها من المدن في كافّة أنحاء تونسَ يوم 24 جانفي 1952 احتِجاجًا على اعتقالِ الزُّعماء، كان صاحِبُ «القشابيّة» في مقدِّمتِها مع «حمّادي الغربيّ» يقودانِها من «الحومة الحمراء» إلى «المراح» بوسط قليبية لتجتمِعَ هناك مع مظاهرة حمّام الأغزاز ومظاهرة أزمور وغيرهما. ثمّ خطب فيهم القائدُ الثّالثُ «صادق مجدوبة» خطابا حمّاسِيًّا ألهبَ مشاعِرَ المتظاهرينَ، ففاضَ طوفانُ النّاسِ على الحواجِز التي وضعها الجندرمة أمام مركزِهم فحطّموها وهجموا عليهم بالحجارة والسّلاح الذي لم تحسُبْ له السّلطة الفرنسيّةُ آنذاكَ أيَّ حسابٍ نتيجةَ العمل السّرّيّ الذي يقودُه حزبُ الدّستور.
• نهاية المسيرة
أمّا الأرشيفُ الوطنيّ التّونسيُّ فقد حفظ لنا وثيقةً (3) يبدو أنّها مقتطفةٌ من التّقرير الذي أعدّتهُ لجنة «الطّاهر بن عمّار» حول الفظاعات التي ارتكبها جُندُ اللّفيف الأجنبيّ التّابع للجيش الفرنسيّ في الوطن القبليّ بعد قمعِه لثورة التّحرير الوطنيّة (18 جانفي 1952) وتحديدا للمظاهرة المذكورة. وتروي هذه الوثيقةُ تفاصيلَ استشهاد بطلَيْ الثّورة في قليبية بدون منازعٍ عبد العزيز بن عليّ الخوجة وحمّادي بن حسين الغربيّ، بعد اعتقالِهما معا يوم 31 جانفي 1952.
تقول الوثيقة: تمّ إيقافُ عزيّز بن عليّ الخوجة (38 عاما وأب لسبعة أطفال) في منزله يوم 31 جانفي 1952 من قِبل عونَيْ الشّرطة «ساسي» و»ع- ش». أمّا العون «ساسي» فقد قال له: «تعالَ معنا، الكاهية يُريدُك». وفي الطّريق سُمِعَ وهو يقول له أيضا: «لقد قدّمتَ ضدّي شِكايةً منذُ مُدّةٍ، وفي هذه المرّة سنتدبَّرُ أمرَكَ». وبعد ذلك اُقتِيدَ إلى مركز الشّرطة، ثمّ رآه بعضُ النّاسِ وهو خارِجٌ منه صحبةَ حمّادي بن حسين الغربيّ (26 عاما). وقد قادهما قائد الشّرطة «بامبينا» Bambina إلى مركز الجندرمة حيث تعرّضا إلى العنف والإهانة. وبعد ساعةٍ تمّ إخراجُهما وقد بدتْ على وجهيْهِما حالةٌ من الذّهول والرّعب. أركبَهما عون جندرمة على سيّارة وجلس حذوهما، أمّا «بامبينا» فقد قادَ بنفسِه السّيّارةَ إلى مكانٍ خارج البلد يُسمّى «دُوّيرة الإمام» حيثُ تمّت عمليّةُ قتل الشّهيديْن. وقد شاهدَ أحدُ المُزارِعين هناك عمليّةَ اغتيال الخوجة ثمّ ولّى هارِبًا.
كما تُضيف الوثيقةُ أيضا أنّ عون الأمن «فارينا» Farina قد حملَ جُثّتَيْ الشّهيديْن على شاحِنةٍ قادَها بنفسِه إلى مركز الشّرطة، وهي شاحنة على ملك أحد سكّان الهواريّة. ثمّ خاطب شيخ قليبية قائلا: «هناك جُثّتانِ عليكَ نقلُهُما وتسليمُهما إلى ذويهِما لدفنِهما». وقد أوصاهُ بالصّمتِ التّامّ.
غيرَ أنَّ الصّمتَ عن الجريمةِ لم يَدُمْ طويلاً، فسرعان ما سَرَتْ ثورةُ التّحرير في كلِّ أنحاءِ تونِسَ، وأتتْ أُكلَها بعد عامَيْن أو ثلاثةٍ وأسفرت عن الاستقلال الدّاخليّ فالاستقلال التّامّ. وبقِيَ عبد العزيز الخوجة وحمّادي الغربيّ رَمْزَيْن للوطنيّة الصّادقة والتّضحية من أجل الأرض والعِرض في قليبية. وهاهي قليبية تَعودُ اليومَ إلى ذاكرتِها وتُحيِي ذِكرَى عبد العزيز الخوجة بعد أربعةٍ وسِتِّينَ عامًا من استِشهادِه.
_____
(1): يُنسَب هذا المسجد إلى سيدي أبي بكر الضّاوي، وهو صاحب الزّاوية الموجودة هناك. وكان هذا الجامع يُسمّى حسب الوثائق التي تبيّن أحباسَه «جامع السِّرّ». (عبد الرّحمان بن عبد اللّطيف: صفحات من تاريخ قليبية، ص 39 - 40 و45)
(2): مجلّة «أسبيس» (دار الشّباب قليبية) العدد الأوّل سنة 2004. (صفحة التّقديم).
(3): الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ: الحركة الوطنيّة 56/3.
مزار بن حسن