و«لا زال علي الدوعاجي يستهوي قلوب الأدباء والكتاب رغم مرور أكثر من سبعة عقود على رحيله ... فهو رأس جماعة تحت السور وهو المنشق والمختلف وكاتب مأساة الفنان. كتب القصة وأدب الرحلة والمقال الصحفي وله باع وذراع في الرسم والكاريكاتور وأدب الترسل والمسرح الإذاعي والمسرح والشعر والغناء والزجل ..».
جمع عز الدين المدني أعماله الكاملة ثم جمعها الأستاذ توفيق بكار وقد توفي دون أن يكملها فمات وفي نفسه شيء من الدوعاجي.» في هذه الأسطر جزء من كلمة مؤسس منتدى الفكر التنويري التونسي محمد المي بمناسبة تكريم المبدع في صيغة الجمع علي الدوعاجي يوم أمس الأربعاء 28 ديسمبر 2022 بمدينة الثقافة.
ترافد الفنون في كتاب الدوعاجي
في سبر لأغوار الخيال والتخيل عند الرسم بالكلمات أو الرسم بالريشة، قدم الفنان التشكيلي حبيب بيدة مداخلة تحت عنوان « قرابة الرسم والقص :»أم حوّاء لعلي الدوعاجي» هل هي تحويل وجهة الأسطورة؟» . وقد أشار إلى أنه عثر بالصدفة على قصة بعنوان»أم حواء» لعلي الدوعاجي بفضل عزالدين المدني وهو الذي يشتغل منذ ثلاث سنوات على معرض عن آدم وحواء. واعتبر الدكتور حبيب بيدة أنّ « التحول في ذهن الدوعاجي لم يكن فقط فرجويا بل ذهنيا وخياليا وربما إيدولوجيا رمزيا يسرّح عقولنا من مسرح الحياة وباستطاعة مخرج مسرحي أو سينمائي أن يجعل من قصته هذه منطلقا لخيال بصري منتج لتحويل وجهة جديدة».
وفي مداخلة بعنوان « مقومات الكتابة الرحلية في «جولة بين حانات البحر المتوسط « لعلي الدوعاجي « انتهى الباحث ضو سليم إلى أن» اعتبار علي الدوعاجي رائد الحركة التجديدية في الأدب التونسي المعاصر ليس من باب المبالغة أو المفاخرة بالرجل، فبالفعل كان الدوعاجي رائد القصة القصيرة ورائد الأدب الساخر ومجددا في الكتابة الصحفية وأدب الرحلة ... ويمتاز الدوعاجي بقدرة فائقة على النهل من مختلف أجناس الكتابة وصهرها داخل نص واحد... إلى جانب ذلك يُعدّ هذا النص أمارة واضحة على جسارته الفريدة في البوح والانكشاف دون أي ريبة أو خشية من سلطة الرقابة الأدبية. «
في تقاطع بين «النص السردي والصورة المرئية» تندرج مداخلة الباحثة دلال الغربي التي اتخذت من «سهرت منه الليالي» منطلقا لقراءة تجريبية في أثر الدوعاجي . وقد أكدت «نجاح الدوعاجي في سرد قصة ترى وتسمع محوّلا الدلالات اللفظية إلى صور ولقطات سينمائية معتمدا تقنية المونتاج والكتابة اعن طريق السيناريو وحركة الكاميرا. فتناثرت هذه التقنيات في القصة الدوعاجية مخترقة الحدود بين جنس القص والسينما وتراسلت الأجناس لتولّد نصا طريفا مزج بين الكتابة القصصية والتقنيات السينمائية وهو ما أهل بعض النصوص إلى تحويلها الفيلم سينمائي قصير».
الأدب الهزلي والكاتب الساخر
يقتفي عبد الرحمان الكبلوطي أثر الإضحاك في أقاصيص علي الدوعاجي فينتهي في مداخلته الطريفة إلى أن « الدوعاجى كان فنانا قصصيا يتصيد النكتة ويبحث عن المواقف الغريبة الشاذة للأفراد والجماعات يصفها ويعلّق عليها ويرسم ملامحها بريشة رسام وقلم كاتب ذي طبع مرح ونفسية ضاحكة ولامبالاة في الحياة وما فيها من مآس وحوادث وقد عاصر المحن والجوائح والحروب الكبرى في زمانه... ألم يقل في زجله الشهير:
ايذا أنت في نفسك تاعب
ما لقيتش في الدنيا صاحب
ابق ديمه ضاحك لاعب
ابق ديمه ضاحك باشش
میسالش، میسالش
في استدعاء للخلفية الأدبية الغربية لعلي الدوعاجي، تحدثت الناقدة هيام الفرشيشي أن علي الدوعاجي «كان يجد في الحياة البوهيمية ما يحرره من العيش العادي والتفكير المعلب وعوالم النهار بصخبه وتأثيره على الذات ونسقه المقدس في آن. ففي الليل تبدأ مغامرة الحرية والبحث عن الحقيقة في الغموض والضوء في الظلام والحرارة في وهج عيون القطط والإبداع في المسامرات حول الشعلة الضئيلة المولدة للطاقة ضمن حياة بوهيمية مع رفاقه من الأدباء والشعراء، محمد العريبي، وعبد الرزاق كرباكة ومصطفى خريف، ومحمود بيرم التونسي وغيرهم وبذلك يشترك الدوعاجي وجماعة تحت السور في تبني طريق عيش بودلير ورامبو والمبدعين الملاعين...»
في مداخلة رشيقة ومتماسكة البناء والمعاني تطرقت ابتسام الوسلاتي إلى اعتماد الهزل والإضحاك كآليات للنقد الاجتماعي مؤكدة أنّ الدوعاجي «قد رصد حركة المجتمع التّونسيّ من «اللوج»، فألم بمختلف أنّ غاص في العوالم المقصيّة، واستلهم من مواضيعها مادته الفنية وعبّر بلغتها، وبذلك استجاب لذوق الجمهور وتمكن من مخاطبة عقله ومشاعره متوسلا الهزل والفكاهة التي لونت مختلف نصوصه فوجد فيها الجمهور التسلية والترفيه والتثقيف. وقد شكلت اللغة العامية عند الدوعاجي اختيارا يتماشى مع توجهه نحو المسرح الهزلي، وقد حققت المسرحيات التي كتبها علي الدوعاجي نجاحا منقطع النظير، ذلك أنها حاولت التخلص من عثرات البدايات فكتبت بروح تونسية.»
وصفت الروائية آمال مختار علي الدوعاجي بأنه «كنز القصة التونسية أدرك جوهر الإنسان، فأدرك جوهر الحقيقة» مداخلتها إن ّ «تلك القصص القليلة الفريدة والمسرحيات والمقالات الصحفية الساخرة والأشعار والأزجال و التي يظل أشهرها ذلك البيت الذي لخص فيه وضعية الفنان في تلك الحقبة حيث قال : عاش يتمنى في عنبة مات جابولو عنقود * ما يسعد فنان الغلبة * كان من تحت اللحود .. ستظل الشاهد التاريخي الأصدق والأنبل على تجربة فنان عاش حاملا هم الناس الذين مارس بينهم ومعهم فعل الحياة وراح يلقم قبس موهبته من نار عذاباتهم وأوجاعهم فكتبها بسخريته اللاذعة ومرحه الدائم رغم كل ما عاشه من متاعب وبعض الحاجة التي لم تمنعه من السفر واقتناء الكتب وخاصة الفرنسية التي ساعدته على رؤية الحياة من منظار مختلف أضاف له الكثير في تجربته الفريدة التى جعلته يكتشف كنز الفقراء وكنز القصة القصيرة ليكون رائدها في تونس وربما في العالم العربي بلا منازع».
عن «عصر علي الدوعاجي المأزوم في الإبداع والفن» قدّم الكاتب عزالدين المدني شهادة ثرية للأدب والتاريخ قال فيها :»بعد وفاة علي الدّوعاجي راجت الأقاويل بأنه لم يخلّف شيئًا من أعماله وكأنها ذهبت أدراج الرّياح كما يقال على أن البعض من أصدقائه قد تسلموا حسب أقوالهم من والدته قفّة مليئة الكتاب كأن عائلته قد تخلّصت منها وأقوال أخرى كانت تدعي أن عددًا من المصريين يملكون أزجال الفقيد ! .. بينما عثرت على الكثير منها في دفتر ليست مكتوبة بخط صاحبها على كلّ تمّ البحث عنها فنثرتُ أكثرها في الكتاب محققه وألغيت أسماء من سرقوها ونسبوها لأنفسهم فأرجعتها إلى مبدعها الحقيقي بعد التثبت والتأكد المدعومين بالشهادات».