كان الفنانون يرسمون الأمل و الحلم ويمسكون بالممحاة لإبادة كل أثر للقبيح والسئ والمعادي لثقافة الحياة والسلام. في هذا السياق نجحت الدورة 33 من مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية في تنظيم عرسها الثقافي وإعلاء راية الفن احتفاء بالحياة رغم داء الكورونا و رغم أعداء النجاح!
في الوقت الذي احتجبت فيه مهرجانات كثيرة وغابت أخرى عن جمهورها وروادها، أصرّ مهرجان المحرس الدولي على عدم التوّقف ومواصلة السير في الدرب ومواصلة المشوار رغم العوائق والصعاب وقلة الإمكانات !
تكريمات واحتفالات الألوان والحياة
بعد أيام من الاعتكاف أمام لوحات وجداريات ومنحوتات... في محاولة لاستحضار المعنى وتحويله إلى صور وأشكال وألوان ، وترجمة الشعور والتفكير إلى مساحات من النور والخلق والجمال، أسدل مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية ستار الاختتام على فعاليات دورة استثنائية جاءت في ظروف غير معتادة. ولكنها استماتت في الدفاع عن حقها في الوجود وعلى واجب الفن في المواجهة والمقاومة لا الاحتجاب والانسحاب !
كانت دورة تونسية بمشاركة فنانين أجانب مقيمين في تونس نظرا لتعذّر استدعاء الضيوف الأجانب لكنها نجحت في رسم الحياة على الجدران وفي الشاطئ وبث الحيوية والحركية في المدينة والشوارع .
على شاطئ المحرس حيث كان البحر هو الشاهد على تاريخ مدينة الفنون والملهم للفنانين والثقافات، احتفت الهيئة المديرة للمهرجان برئاسة إسماعيل حابة بضيوفها وجمهورها على إيقاع حفل موسيقى بتوقيع الفنان محسن المصمودي. وقد تم إسناد شهادات الشكر وميداليات التكريم إلى المبدعين الذين تركوا بصماتهم في لوحات جميلة وبثوا شيئا من روحهم وشعورهم في أعمال فنية خالدة. كما أهدى المهرجان دروع التكريم إلى الفنانين علي الزنايدي وعبد الحميد الثابوتي. ولم تغفل الدورة 33 عن تكريم الفنان الراحل عمار علالوش من الجزائر والراحل عمران بشنة من ليبيا.
من ميزات مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية أنه لا يعلي فقط راية الفن التشكيلي بل يسعى إلى استقطاب كل الفنون من موسيقى ورقص وشعر ... ضمن توليفة فنية تغير من وجه المدينة في كل صيف وبانوراما من الألوان تعزف لحن الحياة مع بداية كل دورة من المهرجان.
ومساهمة منه في إحياء الموروث الحضاري والتراث المادي واللامادي لمدينة المحرس الساحلية، فقد نظمت هيئة المهرجان رحلة بحرية ممتعة إلى الموقع الأثري يونقا حيث يقف هذا الحصن البيزنطي صامدا في وجه النسيان والإهمال !
توثيق «المنابر» في كتب وإصدارات ... لم لا؟
كما يحتفظ مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية بثروة ثمينة من اللوحات فاق عددها 1800 لوحة ويفتخر بامتلاك أكثر من 70 عملا فنيا من مجسمات ومنحوتات وجداريات تزين شاطئ مدينة المحرس، فإنّه أيضا يراكم حصيلة من المداخلات والشهادات كانت ثمرة منابر المهرجان لعقود من الزمن.
إن «المنابر» أصبحت سنّة حميدة في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية وعمادا أساسيا في تشييد صرح المهرجان. ولم تشذ الدورة 33 من المهرجان عن هذه القاعدة، فمنحت المصدح والمنبر لمداخلات بإمضاء كل من خليل قويعة وحمدي المالكي ويسرى زغدان ونزار تريشلي ونزار المؤخر وصادق الطويل وجيهان الخالدي...
وعن سمة المنابر في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية وخصوصيتها واختلافها، يقول منسق المنابر الدكتور محمد بن حمودة: « فكرنا في بعث ما أسميناه » منابر مهرجان المحرس للفنون التشكيلية« ، وقد قصدنا من ذلك أن نؤسس سياقا يسمح للفكرة الواحدة و للمشروع الواحد أن يجد مساحة زمنية كافية وإطارا ملائما يتم ضمنه طرح المسائل، لا انطلاقا من مسائل عامة و مجردة ( و نحن لا نبخس هذا الجانـب قدره )، و لكن انطلاقا من مسيرة حياة يشخصها ضيف المنبر بوصفه باحثا خصص حياته ، أو جزءا كبيرا منها، لسبر معالم حقل من حقـول المعرفة الواسعة والطريفة.»
وإن كانت منابر مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية تسعى بدورها إلى أن تكون ذات خصوصية وفرادة كما هو حال مهرجانها الفريد من نوعه ومضمونه، فإن مقترح جمع حصاد سنوات طويلة من المداخلات الفكرية والجلسات العلمية في كتب أو نشريات يبدو مطلبا مشروعا. وذلك توثيقا لذاكرة مهرجان عريق ومميّز وحفظا لمسيرة الفنون التشكيلية في تونس وسيَر أصحابها وإفادة للمختصين والباحثين والأجيال القادمة.
آن الأوان لرصد ميزانية تليق بفرادة المهرجان
أكثر من 300 مهرجان صيفي في تونس تتشابه حد الاستنساخ في البرمجة والفقرات، حتى أن المهرجانات المختلفة والمتميزة التي لا تشبه غيرها أصبحت تعدّ على أطراف الأصابع على غرار مهرجان الجاز بطبرقة ومهرجان الفنون التشكيلية بالمحرس... ولعل تميز مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية يكمن في خروجه بالفن التشكيلي من الفضاء المغلق في أروقة الفنون وصالات العرض إلى الشارع والفضاء العام .
ولأنه اللقاء العربي والدولي الفريد من نوعه الذي يجمع الفنانين من كل الشعوب والمدارس والأجيال لإطلاق حوار فني وجمالي وثقافي مفتوح على البحر، فقد رفع هذا المهرجان شعار «المحرس متحف في الهواء الطلق» وهي الميزة والخاصية التي تتدّعم من سنة إلى أخرى بفضل القائمين عليه والمؤمنين بقدرة الفن على التغيير رغم الصعوبات و ضعف الميزانية التي تفوق 100 ألف دينار في أقصى الأحوال. ومنذ تأسيسه في الثمانينات يحمل المهرجان تصورات ورؤى للتطوير ومزيد الإشعاع العالمي إلا أنه يصطدم بالتمويل الهزيل في كل مرة ! وفي هذا السياق كان مدير المهرجان إسماعيل حابة قد صرّح لـ«المغرب» : « رغم طموحنا في التطوير وحرصنا على التجديد إلا أن شح التمويلات وتواضع الإمكانات يحول بيننا وبين تحقيق ما نروم إليه من أهداف ورؤى. ويبقى الحلم الأكبر والمطلب الملح لمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية إنجاز مشروع «حيّ الفنانين» الذي يضم متحفا وقاعات للعرض والندوات وإقامة للفنانين... لكن للأسف هذا المشروع المتعثر منذ عام 1997 لم يجد طريقه إلى التحقيق لأسباب مادية بالأساس!».