لا لأنك الأب والأم... بل لأنني أحلم أن أضحك وأبكي فيك «بهذه الأبيات علمنا «أدونيس» أن نحتمي باللغة العربية حصنا منيعا وندمنها عشقا كبيرا. وفي 18 ديسمبر من كل عام يكون الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية باعتبارها من أقدم اللغات السامية وأكثرها تحدثا وانتشارا...
«العربية والشخصية الوطنية» تحت هذا العنوان نظمت الجمعية التونسية للتربية والثقافة التي يرأسها رضا الكشتبان احتفالا باليوم العالمي للغة العربية ندوة علمية بمعهد تونس للترجمة. وكانت المحاضرات بإمضاء ثلة من المثقفين واللغويين واللسانيين وهم محمد صلاح الدين الشريف وعبد العزيز قاسم وفرحات المليّح ومحمد العزيز الأحمر وفاطمة الكرّاي.
إضاءات نيّرة ومحاضرات قيّمة
»دور اللغة في نحت الشخصية الوطنية دور تاريخي مجاوز لمفهوم الدولة ودساتيرها ومؤسساتها الاستبدادية والديمقراطية على حد سواء. وذلك لكون اللغة ذات بعد أنتروبولوجي ثقافي عام عابر للعصور، إذا لم تحترمها السياسة وأنظمتها الزائلة، إذا لم تحترمها العقائد وتعاليمها المتهافتة، إذا داستها الهيمنات المتعجرفة، فإنها تنبعث من رمادها دوما بأقوى مما كانت عليها. لا سيما إذا كانت كاللسان العربي، لسان حضارة كبرى، ورثت كل الحضارات القديمة وامتزجت في تشييدها شعوب وقوميات وأديان مختلفة، صنعت التاريخ وحددت للعالم صورته الجغراسياسية الحالية وزرعت في الوعي الجماعي شعورا واحدا بالانتساب. في هذا الإطار الكلي تشكلت عبر التاريخ الشخصية الوطنية التونسية، شخصية إفريقية آسيوية ساميّة حاميّة مازجة بين الشعوب، منفتحة على الحضارات… » كان هذا المدخل هو الطرح الإشكالي الذي دارت في فلكه محاضرات ندوة »العربية والشخصية الوطنية».
وقد كان الوقوف على عتبات «العربية والشخصية الوطنية» في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية ثريا بالمداخلات وقيّما بالمحاضرات التي طرقت أبواب هذا المحور من زوايا مختلفة ورؤى متنوّعة. و في محاضرة بعنوان “الشخصية الوطنية والدولة: تماه أم تكامل؟” تحدثت الأستاذة فاطمة كراي عن مفهوم الشخصية الوطنية وأبعادها في علاقتها بالدولة والتي يحكمها الدفاع والصراع، الانصهار والقطيعة، التوافق والاختلاف... لتبقى الشخصية الوطنية عنوان الاستقلال في كل الأحوال.
وتحت عنوان «اللغة العربية: التحديات والتجاذبات» صال وجال المدير العام السابق للإذاعة والتلفزة التونسية عبد العزيز قاسم في رحاب اللغة العربية في اقتفاء لأثر الهجين الذي طبع الخطاب الأصلي وتسلل -حتى- إلى عقر دار المؤسسات الرسمية والوطنية على غرار مجلس النواب و الهيئة العليا المستقلة للانتخابات... مشيدا بقدرة اللغة العربية على الحكم المؤثر لقرون طويلة و تأثيرها في اللغات الأخرى الأكثر انتشارا اليوم. وطالب عبر العزيز قاسم بإنصاف اللغة العربية في المناهج العلمية والأكاديمية حتى تسترجع مكانتها التي تليق بها.
وعن «إشكال الهوية والانتماء» غاص الفيلسوف حمادي جاب الله في اللغة كوجود ثابت وأساسي مقترنا بوجود البشرية ومختلف تمثلاتها واهتماماتها... معتبرا أن اللغة هي أحد وجوه الشخصية الوطنية وأهم أدوات نحت كيانها.
وفي مداخلة بعنوان «تمثل الشخصية الوطنية، مقاربة عرفانية» اختار الأستاذ المبرز في اللغة العربية محمد عزيز الأحمر أن يتناول الشخصية الوطنية في علاقتها بنموذج الزعيم والقائد الملهم والأب الروحي لكل التونسيين الذي كان يمثله الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
وفي إضاءة على «طيف الانتماء اللغوي بين عالمية الثقافة وأعباء التاريخ» أبرز المحاضر فرحات المليّح أن الانتماء قد يتخذ من اللغة سندا ورداء إلى حد الانغلاق أحيانا ورفض الانفتاح على الآخر المختلف لغويا... ليصل في النهاية إلى المحصلة التالية: «الخصوصية لا تطلب إلا من خلال العالمية».
وكان مسك ختام محاضرات «العربية والشخصية الوطنية» بتوقيع الدكتور محمد صلاح الدين الشريف الذي تحدث طويلا عن «التاريخ ووجهة اللغة في نحت الشخصية الوطنية» معتبرا أن تأصل اللغة العربية في تونس يعود إلى الدولة الصنهاجية كما أن اللسان العربي بلغ قمة اكتماله رمزا وهوية في عصر الدولة الحفصية وواصلت على المنوال نفسه الدولة الحسينية. وفي النهاية أعلنت دولة الاستقلال اللغة العربية لغة رسمية في دستورها عن قصد كشكل من أشكال مناهضة الاستعمار.
ولئن اختلفت محاور محاضرات ندوة «العربية والشخصية الوطنية» فإنها اتفقت على أن اللغة العربية هي الزاد الذي لا تنضب خزائنه مهما تآكلته الأزمات والسنوات العجاف.
مكرّمون ومصطفى الفارسي في البال
«زر دار ود إذا أردت ورودا... زادوك حبا إذا رأوك ودودا» وقد أبدت الجمعية التونسية للتربية والثقافة لضيوفها المكرمين والمبجلين كل الود والتقدير. إذ أهدت دروع التكريم إلى شخصيات ثقافية وهامات فكرية ساهمت في نحت ملامح المشهد الثقافي التونسي وإعلاء راية اللغة العربية عاليا كمحمل للفنون وقادح لملكة الإبداع. فليس من الغريب أن تقف الجمعية التونسية للتربية والثقافة وقفة إجلال وإكبار لروح الأديب مصطفى الفارسي وأن تهدي وسام تكريم مسيرته وذكراه إلى ابنته هيفاء الفارسي طالما أن المبدعين ينسحبون ولكنهم لا يرحلون.
وإلى وزراء ثقافة اقترن اسمهم بالتأسيس و التغيير، كرّمت الجمعية كلا من الشاذلي القليبي والبشير بن سلامة اللذين تعذر عليهما الحضور لأسباب صحية.
وليس غريبا أن تهدي الجمعية وسام تكريمها إلى الفنان العالمي نجا المهداوي وهو الذي خلق من الحرف العربي فكرة لوحة وثورة أشكال وألوان ورسائل...
منذ سنة 2014 وصولا إلى سنة 2019، تحافظ الجمعية التونسية للتربية والثقافة على سنتها الحميدة وطقسها السنوي في إحياء اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر من كل عام والاحتفاء بلغة الضاد في عيدها العالمي. وذلك عبر تنظيم ندوات تبحث في واقع اللغة العربية ووقعها وموقعها على غرار العناوين التالية: موقع اللغة العربية في الخريطة السياسية العالمية و العربية والتكامل بين التعلمات والمؤسسات وصراع الألسن، صراع الحضارات... وربما من المهم توثيق هذه الندوات في كتاب حتى يبقى أثرها شاهدا على خطابات ومحاضرات تنصف اللغة العربية وتعلن عن الوفاء لها كما أوصانا الراحل توفيق بكار: «أوصيكم باللغة العربية خيرا».