ماهي منزلة اللّغة العربيّة في الألسنة الحيّة العالميّة؟ هل تستوعب مفرداتها التكنولوجيات الحديثة؟ لماذا تستهدف القوى الاستعماريّة لغات الشّعوب؟
انطلق الدكتور محمد صلاح الدين الشريف من هذه الإشكالات في لقاء نظّمه مؤخّرا المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة» في سياق احتفاله باليوم العالمي للّغة العربيّة، الذي أقرّته منظّمة اليونسكو اعترافا منها بقيمة المعجم العربي في الأنسقة اللّغوية العالميّة.
افتتح اللّقاء الدكتور عبد المجيد الشرفي، حيث نزّل رئيس مجمع بيت الحكمة محاضرة «اللّسان العربي ما هو؟ وما هي منزلته الحقيقية في الزمن البشري؟» ضمن اهتمام بيت الحكمة بقضايا اللّغة العربيّة المتّصلة باختلاف اللّهجات، ومسائل الفهم المرتبطة بتنوّع القراءات. وتعتبر العربيّة وفقا للمحاضر «آخر لسان عالمي حقّق آخر عولمة قبل العصور
الحديثة حتى سقوط غرناطة وتحوّل العالمية إلى الاسبانية فالإنكليزية»، ولكن بعض القناعات السائدة تشكّك في منزلة هذا اللّسان مدّعيّة احتضار المعجم العربي حسب المحاضر، لأنّ القوى العالميّة لا تخطّط عسكريا واقتصاديا وسياسيا فحسب «بل تخطّط لغويّا»، لنستخلص من مضامين مداخلته سعي صنّاع الرّأي العام العالمي إلى الهيمنة فكريّا وثقافيّا عبر جسور تقنيّات التّخاطب مبرّرة التّفاضل والتفوّق اللّساني، ومن الطّبيعي «أن يتشبّه المغلوب بالغالب» إن استعرنا العبارة الخلدونيّة. لكن هل يستقيم الإقرار بتفوّق ألسنة على أخرى من الزّاوية الانتروبولوجيّة؟ من البديهي أن يدحض الموقف الانتروبولوجي نزعة التفاضل لأنّ المباحث الانتروبولوجيّة تتناول اللّغات كأشكال اتصاليّة تعكس هويّات اجتماعيّة والخصائص التركيبيّة للمعاجم واستخداماتها.
وعليه تكون القناعات السائدة حول لغتنا العربيّة بتصوّر المحاضر» ناتجة عن عدم المعرفة ببعض الحقائق العلميّة في خصوص اللّغة البشريّة وألسنتها المختلفة»، وما يشاع في شأن اللّسان العربيّ غير موضوعي لأنّه غير قائم على المنطق العلمي، بل يرتبط باستراتيجيات دعائيّة تخطّط لها قوى استعماريّة انسجاما مع متطلّبات صراع الحضارات وهوس الهيمنة، فمن يتحكّم في اللّغة يمكن أن يتسيّد معرفيّا، والسّيادة المعرفيّة بوّابة أشكال السّيادة السياسيّة والاقتصاديّة، ولعلّ هذا ما عبّر عنه الأستاذ محمد صلاح الدّين الشريف بالمخطّطات اللّغوية. ولإبراز مكانة اللّسان العربي تاريخيّا أكّد المحاضر على أنّ العربيّة كانت في القرن السادس عشر «اللّسان العالمي الأوّل» وشهدت تدحرجا ثمّ عادت في القرن
العشرين لتحتلّ المرتبة الرّابعة عالميّا، وتعدّ كما ورد في المحاضرة «من الألسنة الخمسة المستعملة رسميّا في المنظّمات التّابعة للأمم المتّحدة»، فلم ترتبط سلطتها بانتصارات عسكريّة وتقنيات استعماريّة بل بنفوذ حضاري وأهميّة تنهل من الإبداعي والمعرفي.
وللتأكيد على ما تقدّم أشار الدّكتور محمد صلاح الدين الشريف إلى أنّ لسان الضاد هو الأوّل إفريقيا والمزاحم الجدّي لانتشار الفرنسيّة في القارّة الافريقيّة معتمدا في ذلك على احصائيّات المنظّمة الفرنكوفونيّة.
من أميز ما يميّز اللّغة العربية حسب المحاضرة الصّبغة الأمميّة لأنّها اللّسان الحضاري غير المرتهن بمهام قوميّة أو دينيّة» إنّها لسان المسيحيين والمسلمين واليهود...لسان مذاهب وملل»، فهي برأيه كالألسنة العالميّة على غرار الاسبانية والإنكليزية، وتتّسم بالقدرة على استيعاب جديد العلوم والتكنولوجيا خلافا لبعض الأفكار الشّائعة المروّجة لعدم قدرتها على انتاج المعارف والعلوم، والدّليل على ذلك بتصوّر المحاضر «احصائيّات المنظّمات العالميّة» التي أدرجتها منذ سنة 2010 «ضمن الألسنة العشرة الأكثر استعمالا على الشّبكات الرّقميّة» اذ سبقت اللّغة الفرنسيّة في هذا المجال،وعليه تكون المقاربات المعتقدة في احتضار اللّسان العربي منخرطة في مخطّطات تحتضر.