وتكاثف التصنيع وغيرها من المستجدات اليومية في الساحات التكنولوجية وغيرها، بدأ الحديث عن أشكال أخرى من التلوث الضوضائي واللفظي والفكري والخلقي وحتى الإعلامي..
فإذا كان التلوث يعني انخراما وإخلالات في المحيط المباشر تنعكس مخاطر تهدد سلامة الأحياء ومن بينها الإنسان وتضر صحته وتقلص من حظوظ رفاهيته وأمانه ومستقبله..
فإن التلوث الذي يتجنب البعض الخوض فيه، وهما منهم أنه لا يخص البيئة ولا ينتمي لعائلة الملوثات والمنغصات على غرار المبيدات والانبعاثات الغازية الدفيئة وغيرها ، أصبح في لائحته أصناف من المنغصات المعكرة لصفو الحياة، والمسببة للأذى في صحة الإنسان وسواه.
من بين تلك الأشكال ألوان التلوث اللامادي، من موجات غير مرئية كهرومغناطيسية منبعثة من مختلف الأجهزة الالكترونية والتي ثبت ضررها الفادح بصحة البشر ومخلفاتها الأكيدة على توازن البيئة وسلامة منظوماتها وعلى صحة الانسان.
وقد انضافت لهذه الأشكال من التلوث، مظاهر تلوث فكري وثقافي وإعلامي وأخلاقي، وهي من الأشكال التي لا تقل خطرا عن التلوث المادي والكيمياوي وغيره.
ويرى الكثير أن هنالك ارتباطا عضويا بين شكلي التلوث المادي واللامادي، فالذين يدمرون البيئة ويلقون بالقمامة في أي مكان ويملؤون الفضاء سبابا ونفايات لفظية، هم اصلا حاملون لجراثيم خطيرة باعثة لتلك الحالات المختلة المشاركة في تفاقم التلوث البيئي وانخرام التوازن البيئي وانتشار النقاط السوداء ومظاهر القبح في الساحات العامة.
فإذا كان التلوث ينقسم لعائلتين أولاها تضم تلوث الهواء والماء والتربة، والثاني تلوث سمعي وكهرومغناطيسي وإشعاعي فإن في إطار هذه الأخيرة يدخل التلوث الثقافي والإعلامي والأخلاقي والفكري.
وإذا كان من آفات البيئة مظاهر التصحر والانجراف والترمل والانجراد، وسكب المياه العادمة وانبعاث الغازات من عوادم السيارات، فإن من مظاهره الموازية انبعاث القاذورات اللفظية في الطريق العام، والتعامل بأشكال خادشة للسياق الجمالي والنسق الحضاري للمجتمع، وتلقي سيول من الصور المتنافرة والمشاهد الغريبة بما يشبه سيل مياه الصرف الصحي، المياه المستعملة دونما غربلة أو تنقية.
وتبدو حال الشباب وغيره من الفئات المتقبلة لوضع صعب تجاه ما يبث وينشر على الفضائيات والشبكات العنكبوتية من مواد لا تخلو من سموم وأدواء وكوارث قد لا تقل خطورة عن الجراثيم المسببة للتلوث الوبائي.
ويفترض تفاقم هذا الشكل من الملوثات اللامادية، وغير المصنفة مدمرة للبيئة وجماليتها وتوازنها، جهدا مضاعفا وعملا كبيرا ووعيا أدق بمخاطر تكمن في عادات استهلاكية أدمنها الناس وصور وأشكال تشابه الموضة وتحمل أزياء براقة مبهرة، والخطر فيها أقرب للسم الزؤام حين يمازج ماء الشرب.
لقد حان أوان تقييم مسببات التلوث الخلقي والفكري والثقافي والإعلامي في زمن انفتاح الأسقف واختفاء الجدران وانسحاب غرابيل الرقابة ، واستقالة الأولياء وغيرهم من أدوارهم التقليدية وقد استأثر الشارع والبيئة الثالثة وخاصة الشاشات الصغيرة بمهمة تشكيل وعي الشباب وإعادة تكييف فكرهم وسلوكهم.
المطلوب اليوم هو الانتباه قبل فوات الأوان، لتنوع اشكال التلوث التي لا تدمر الفرد فحسب وإنما توشك أن تنفي الذوق، وتعدم قيما وترحل أخلاقا كانت فطرية في الناس مع الفطرة، تستهدفها منتجات حديثة في زمن الرقي المدني بصواريخ عابرة للعقول والألباب والبصائر قبل الأسماع والأبصار..