الألغام الدستورية والقانونية والسياسية في النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب

احمد صواب- لمياء ناجي

قاضي سابق بالمحكمة الإدارية -أستاذة محاضرة بكلية الحقوق بصفاقس

 يعرّف النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب بانه مجموع الاحكام المتعلقة بتنظيم

وتسيير العمل البرلماني والذي يضبطه ويصادق عليه المجلس، أما عن موضوعه فيتعلق بالتسيير الداخلي للمجلس، الإجراءات المتعلقة بالمداولات داخله والنظام التأديبي لأعضائه. ويعدّ مجلس نواب الشعب النظام الداخلي لا كسلطة تشريعية بل كهيكل اداري تطبيقا لمبدا الاستقلالية الإدارية للمجالس النيابية، فمع ان المصادقة على النظام الداخلي تتم بنفس الأغلبية المطلوبة للمصادقة على القوانين الأساسية أي الأغلبية المطلقة (الفصل 116 من النظام الداخلي)، الا انه ليس بقانون. وعلى هذا الأساس يصنف كفئة متفردة من النصوص القانونية (catégorie sui generis). اما عن قيمته القانونية، فلئن اقرت المحاكم الدستورية بإمكانية احتواء النظام الداخلي للمجلس النيابي احكام تضع موضع التنفيذ احكام دستورية يتعين على المشرع احترامها، الا ان النظام الداخلي لايرتقي الى المرتبة التشريعية ويجب ان يحترم بالاضافة الى الدستور النصوص التشريعية والمبادئ القانونية العامة.

لم يحض النظام الداخلي الأخير بنفس حظوة النظام الداخلي في ظل دستور 27 جانفي 2014، اذ تجاهله دستور 25 جويلية 2022 كما تجاهل التنصيص على الاستقلالية الإدارية والمالية للمجلس النيابي. وقد وقعت المصادقة على النظام الداخلي يوم 28 أفريل 2023 بـ 102 صوت، ولم يقع مراقبة دستورية هذا النظام الداخلي كسابقه رغم تنصيص دستور قيس سعيد على اخضاع النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب وجوبيا لرقابة المحكمة الدستورية (الفصل 127). غياب الرقابة لعدم إرساء المحكمة الدستورية لا يجد له تبريرا خاصة امام بساطة إجراءات تعيين أعضاء المحكمة الدستورية التي يحتكرها رئيس الجمهورية ووضوح إجراءات الرقابة التي نص عليها الباب السادس من دستور قيس سعيد، مما يوحي ان قيس سعيد كسابقيه لا يريد رقابة دستورية على نصوص مجلسه الوظيفي وعلى مشاريعه التشريعية او المشاريع المنقحة لدستوره.
وبالاطلاع على النظام الداخلي الذي ورد مطوّلا باعتباره يحتوي على 172 فصلا (43 صفحة بالرائد الرسمي) مقابل 165 فصلا تضمّنها النظام الداخلي للمجلس النيابي المنحل، يتبيّن انّ النظام الداخلي المصادق عليه يوم 28 أفريل 2023 وان أفلت من الرقابة كسابقه باعتبار تأخير إرساء المحكمة الدستورية، فقد اكتفى بالنقل الحرفي لفصول من النظام الداخلي للمجلس المنحل بعضها محمود والآخر يتنافى مع المبادئ الدستورية والقانونية. من جهة اخرى أعاد ارتكاب نفس الاخلالات الدستورية، وأضاف اخلالات أخرى اكثر جسامة.
I- الإبقاء على أحكام من النظام الداخلي للمجلس المنحل
1- إبقاء محمود لتلافي التراجع عن المكتسبات في دستور 2022
نص الفصل 2 من النظام الداخلي على حرية الراي والتعبير والفكر لجميع أعضاء مجلس نواب الشعب كما نص على ضمان حرية المعارضة، وبذلك حاول المجلس تلافي تجاهل دستور 25 جويلية للمعارضة كسلطة مضادة مؤسساتية وأساس للديمقراطية. فرغم اشارة دستور 2022 الى الديمقراطية السياسية والنظام الديمقراطي الا انه تراجع عن دستور 27 جانفي 2014 الذي كرس فصلا كاملا للمعارضة ضمانا لحقوقها والنهوض بمهامها في العمل النيابي وبحثا عن تمثيلية مناسبة وفاعلة لها في هياكل المجلس. لكن محاولة مجلس نواب الشعب تدارك تراجع المؤسس عن حرية أساسية والتنصيص عليها بالنظام الداخلي قابله اهمال لتعريف المعارضة البرلمانية وللتنصيص على حقوقها.
من جهة أخرى نرى ان الفصل 163 من النظام الداخلي الذي ينص على قيام الإدارة البرلمانية باسناد العمل النيابي على مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق العام، وعلى عملها لخدمة الصالح العام وفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاعة والمسؤولية هو إعادة للفصل 2 من النظام الداخلي السابق الذي كان ترجمة للفصل 15 من دستور 27 جانفي 2014، وهي كلها اساسيات للعمل البرلماني ولعمل الإدارة تجاهلها دستور 25 جويلية 2022. نفس الملاحظة يجدر تقديمها فيما يتعلق بالاستقلالية الإدارية والمالية للمجلس النيابي، اذ وقع التنصيص على استقلالية مجلس نواب الشعب في العنوان الثالث من النظام الداخلي المصادق عليه في 28 أفريل 2023 (الفصول 165 و166) في حين غابت في دستور الرئيس. ويقصد بمبدأ الاستقلالية الإدارية والمالية مبدا التنظيم الذاتي لمجلس نواب الشعب ( le principe d’auto-organisation de l’ARP) وهو امتداد لمبدا الفصل بين السلط ويكرس استقلالية البرلمان عن السلطة التنفيذية حتى لايكون خاضعا في تصريف شؤونه الادارية والمالية لها.

2- إبقاء مقنع
من المفارقات أن يحتوي النظام الداخلي الحالي الذي وقع اعداده في اطار دستور يكرس نظاما رئاسويا يقلص بشكل كبير من صلاحيات مجلس نواب الشعب على 172 فصلا في مقابل احتواء النظام الداخلي لمجلس النواب المنحل على 166 فصلا. وبالتمعن في فصول النظام الداخلي المصادق عليه في 28 أفريل 2023، نلاحظ النقل الحرفي لقرابة 48 فصلا من النظام الداخلي للمجلس المنحل هذا عدا الفصول التي وقع مزجها والفصول التي وقع تقسيمها الى فصلين اثنين بما في ذلك من غياب للاجتهاد ومن غياب للتناسق والمقروئية لأحكام النظام الداخلي.
اما عن المحتوى، فان وقع الاستغناء عن اللجان الخاصة تماشيا مع مقتضيات الفصل 72 من دستور 2022 الا ان النظام الداخلي الحالي كرس 13 لجنة قارة مقابل 9 لجان في النظام الداخلي السابق وهو أولا عدد مشط يذكرنا بلجان المجلس الوطني التأسيسي، ثانيا هو استغناء ظاهري باعتبار انه وقع ادماج اللجان الخاصة مع اللجان القارة. فعلى سبيل المثال استغنينا عن لجنة الامن والدفاع كلجنة خاصة وعوضناها بلجنة الدفاع والامن والقوات الحاملة للسلاح كلجنة قارة، استغنينا عن لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام كلجنة خاصة وعوضناها باللجنة القارة عدد 11 "لجنة تنظيم الإدارة وتطويرها والرقمنة والحوكمة ومكافحة الفساد"، والامثلة عديدة... في حقيقة الامر لم يقع التخلي الا عن لجنة التنمية الجهوية التي كانت تتولى متابعة ملفات التنمية الجهوية ومراقبة مراعاة السياسة الحكومية لمبدا التمييز الإيجابي بين الجهات ووقع الإبقاء على باقي اللجان كلجان دائمة، ونظن ان ذلك مرده إرساء المجلس الوطني للجهات والاقاليم الذي تعرض عليه وجوبا مخطّطات التّنمية الجهويّة والإقليميّة والوطنيّة.

II- التمادي في خرق أحكام "الدستور"
1- استنساخ الاخلالات الدستورية القديمة
واهم هذه الاخلالات هي اسناد اختصاصات الى المجلس على شاكلة الدساتير، اذ ينص النظام الداخلي في فصله 164 على ان "يسن مجلس نواب الشعب قانونا يتعلق بالنظام الأساسي العام للوظيفة البرلمانية وفقا لخصوصيات المرفق العمومي البرلماني ولمتطلبات العمل الإداري بالمجلس"، كما ينص الفصل 165 منه على ان " يسن مجلس نواب الشعب قانونا ينظم بمقتضاه الاستقلالية الإدارية والمالية للمجلس ويضبط القانون المتعلق بالاستقلالية الإدارية والمالية لمجلس نواب الشعب آليات الرقابة على تنفيذ ميزانية المجلس وهياكلها". فبالاضافة الى تدارك النقص الوارد في الدستور الذي تجاهل التنصيص على مبدأي الاستقلالية المالية والإدارية التي لاتحتاج تنصيصا صريحا باعتبارها امتدادا لمبدا الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية -الوظيفتين-، نرى ان النظام الداخلي يتجاوز ذلك ليسند اختصاصات تشريعية في حين ان اسناد الاختصاصات هي وظيفة الدستور وحده، مما يجعل أحكام الفصل 164 والفصل 165 غير دستورية. من جهة أخرى، عندما ينص الفصل 165 على ان مجلس نواب الشعب يسن قانونا ينظم الاستقلالية المالية للمجلس وكأننا بالنظام الداخلي يسند للمجلس اختصاص سن قانون لتنظيم استقلاليته المالية خارج القانون الاساسي للميزانية في حين ان الاستقلالية المالية للمجلس لا تخرج عن إطار ميزانية الدولة سواء في ظل دستور 2014 الذي اتخذ على أساسه القانون الأساسي للميزانية المؤرخ في 13 فيفري 2019 او في ظل دستور قيس سعيد الذي حذف نهائيا كل تنصيص صريح على الاستقلالية المالية للمجلس أو حتى على ضوء الفصل 166 من النظام الداخلي نفسه الذي ينص على أنّ "لمجلس نواب الشعب ميزانية مستقلة تدرج ضمن الميزانية العامة للدولة". وهنا نرى ان مجلس نواب الشعب قد تصرف كسلطة تأسيسية اصلية ضاربا بالدستور وبالقوانين التي من المفروض ان يحترمها عرض الحائط.

2- إضافة اخلالات جديدة
وهذه الاخلالات عديدة ففيما يتعلق باللجان البرلمانية، ينص الفصل 49 من النظام الداخلي الجديد على انه "لمجلس نواب الشعب ثلاثة عشر لجنة قارة سيادية تعهد لها مهام تشريعية ورقابية وانتخابية وتتولى في هذا الاطار بالخصوص، دراسة مشاريع ومقترحات القوانين المعروضة على المجلس لمناقشتها وإدخال ما تراه من تعديلات عليها قبل عرضها على الجلسة العامة، والنظر في جميع المسائل التي تحال اليها ومتابعة كل الملفات والقضايا الداخلة في اختصاصها"، كما ينص الفصل 66 (الفصل 84 قديم) على "ان تنهي اللجنة نظرها في مشاريع ومقترحات القوانين بالمصادقة على تقرير يلخص جملة مداولاتها وتدوّن فيه نقاط الخلاف، ولايدرج في نص المشروع المحال الى الجلسة العامة الاّ الراي المحرز على اغلبية الأصوات" ممّا يطرح التساؤل حول امتداد سلطة اللجان. فبقراءة الفصل 49 نلاحظ انّ اللجان التي من المفروض ان يقتصر دورها على درس مشروع او مقترح المبادرة وتقديم تقرير في ذلك مصاحب للمشروع، تتجاوز مجرد دراسة مشروع أومقترح القانون "لتقوم بتعديله" وادراج رايها في "نص المشروع" وهو ما يتعارض تماما مع الفصل 68 من الدستور الذي يكتفي بمنح حق المبادرة التشريعية الى رئيس الجهورية والى النواب. سؤال يطرح خاصة وأنّ دستور25 جويلية 2022 على غرار سابقه لم يتعرض لسلطة اللجنة البرلمانية ولا يحتوي على مرادف للفصل 42 من الدستور الفرنسي الذي أصبح ينصّ صراحة منذ تعديل 23 جويلية 2008 على أنّ "مناقشة مشاريع ومقترحات القوانين في الجلسة العامة تتم على النص الذي صادقت عليه اللجنة التي أبلغت به تطبيقا للفصل 43 وإن تعذر ذلك فإنها تتناول النص الذي أبلغ به المجلس". كما ان الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين الملغاة (الفصل 21 من الامر عدد 117 المتعلق بالتدابير الاستثنائية) تعرضت عديد المرات الى مسالة امتداد سلطة اللجان وسبق ان تصدت لمحاولات الالتفاف على حق المبادرة التشريعية.
فيما يتعلق بالعهدة البرلمانية وشرط عموميّتها، وقع التنصيص بالفصل 3 من النظام الداخلي على أنّ "كل عضو بمجلس نواب الشعب هو ممثل عن دائرته الانتخابية وهو نائب عن الشعب بأكمله بداية من تاريخ نشر النتائج النهائية للانتخابات بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية". ويكرس هذا الفصل تجزئة الوكالة النيابية بين تمثيلية الدائرة الانتخابية والنيابة عن الشعب وهو فصل مخالف للدستور وتحديدا الفصل 3 الذي ينص على ان " الشّعب التّونسيّ هو صاحب السّيادة يمارسها على الوجه الذي يضبطه هذا الدّستور"، وكذلك الفصل 56 الذي ينص على ان "يفوّض الشّعب، صاحب السّيادة، الوظيفة التّشريعيّة لمجلس نيابيّ أوّل يسمّى مجلس نوّاب الشّعب ولمجلس نيابيّ ثان يسمّى المجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم"، وكذلك الفصل 55 المتعلق بضوابط الحقوق والحريات. فالنائب لايمثل الدائرة الانتخابية التي ينتمي لها بل كامل الشعب، ذلك ان الانتخابات لا تنشا علاقة تعاقدية بين ناخبي الدائرة الانتخابية والنائب، ولا تؤدي الى قيام رابطة قانونية بين النائب والدائرة الانتخابية التي انتخب عنها. فحتى وان اعتبرنا انّ الفصل الثالث من النظام الداخلي هو ترجمة لما ورد بالمرسوم عدد 55 المنقح للقانون الانتخابي، الذي يفرض شرط تزكية المترشح من الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية، فانّ كليهما مخالف للدستور ويتنافى مع عمومية العهدة البرلمانية ذلك ان تمثيلية مجلس النواب هي تمثيلية وطنية، تطبيقا لمبدا التمثيلية ومبدأ الفصل بين السلط، وليست تمثيلية محلية.
فيما يتعلق بمسالة حفظ النظام وبالفصل 120 تحديدا، اكتفى المجلس بنقل الفصل 131 قديم اذ ينص على انه في حالة العنف المادي او المعنوي او التهديد بهما اثناء الجلسة العامة يأمر رئيس الجلسة النائب المخالف بالخروج من القاعة وفي صورة عدم الامتثال يقع تعليق اشغال الجلسة وعقد اجتماع فوري لمكتب المجلس، فاذا بلغ الاخلال بالنظام حد تعطيل السير العادي للجلسة يمكن لمكتب المجلس ان يقرر الآليات المتاحة لتطبيق الفصل 66 من الدستور. وبذلك يكون قد خالف في موضعين الفصل 66 الذي ينص على انه "لا يتمتّع النّائب بالحصانة البرلمانيّة بالنّسبة إلى جرائم القذف والثّلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس أو خارجه، ولا يتمتّع بها أيضا في صورة تعطيله للسّير العاديّ لأعمال المجلس". أولا، ان الفصل 66 لايتعلق برفع الحصانة ضد الإجراءات الجزائية بل يتعلق بحدود الحصانة ضد المسؤولية وهي حماية النائب من الايقافات او التتبعات او المحاكمات من اجل مايبديه من أراء وما يقوم به من اعمال عند مباشرته مهامه. ثانيا، يعتبر الفصل 66 ان الحصانة تصبح معدومة التأثير بالنسبة الى جرائم القذف والثلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس او خارجه وفي صورة تعطيل السير العادي لأعمال المجلس في حين ان الفصل 120 لا يشير الى إعمال أحكام الفصل 66 الاّ في حالة تعطيل السير العادي للجلسة.
فيما يتعلق بمنح النواب، يعتبر عدم التنصيص على نشر منح النواب وامتيازاتهم خاصة العينية بالرائد الرسمي او على الأقل بالموقع الرسمي لمجلس نواب الشعب خرقا لمبدا الشفافية المنصوص عليه بالفصلين 162 و163 وخاصة الحق في الاعلام والنفاذ الى المعلومة المنصوص عليه بالفصل 38 من الدستور.
بالنسبة للحصانة، وقع خرق مبدا النصاب في التصويت على رفع الحصانة اذ يكتفي الفصل 27 من النظام الداخلي بالتنصيص على أن يتخذ المجلس قراره في خصوص رفع الحصانة بأغلبية الحاضرين من أعضائه دون التنصيص على النصاب وبذلك يمكن ان يتم رفع الحصانة على خطورتها او رفض رفعها بنائبين فقط، في حين ان مسالة النصاب محسومة بالنسبة لكل اعمال المجلس تقريبا نذكر على سبيل المثال قرارات مكتب المجلس وانعقاده المنصوص عليها بالفصل 42 (يتخذ المجلس كل قراراته بأغلبية الحاضرين على الا تقل عن الثلث) والفصل 44 (لا يصح اجتماع مكتب المجلس الا بحضور ثلثي أعضائه) والتصويت باللجان القارة (الفصل 64 يشترط حضور مالا يقل عن ثلث أعضاء اللجنة).
التمادي في الاعتداء على صلاحيات المشرع والسلطة التأسيسية، اذ نظم الفصل 76 من النظام الداخلي الجلسات المشتركة مع المجلس الوطني للجهات والاقاليم وفي ذلك مخالفة للفصل 86 من الدستور الذي ينص على ان العلاقة بين المجلسين ينظمها قانون أساسي (الفصل 75 من الدستور) وليس النظام الداخلي لاحد المجلسين. من جهة أخرى نص الفصل 131 من النظام الداخلي على جلسات دورية مع الحكومة حول سياساتها، مرة كل 45 يوم على الأقل، والحال ان الفصل 114 من الدستور لا ينص مطلقا على الدورية اذ يكتفي بالتنصيص على أن " لمجلس نوّاب الشّعب وللمجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم أن يدعو الحكومة أو عضوا منها للحوار حول السّياسة التي تمّ اتّباعها والنّتائج التي وقع تحقيقها أو يجري العمل من أجل الوصول إليها"، وبذلك يكون النظام الداخلي قد أدرج إضافة مكانها الدستور.
خرق مبدا الآجال المعقولة فيما يتعلق بعمل لجان التحقيق، فالآجال في اغلب المسائل واللجان محددة بدقة الا لجان التحقيق (الفصل 133 من النظام الداخلي) فكل آجالها مفتوحة بما في ذلك التتبعات الجزائية الممكنة وخاصة امام النيابة العمومية، بما يعني عدم الاتعاظ مما سبق.
تخصيص باب كامل للتدابير الاستثنائية، اذ ينص الفصل 147 على انه يمكن لمجلس نواب الشعب في الظروف الاستثنائية التي يتعذر معها القيام بمهامه بصفة عادية ان يتخذ تدابير استثنائية وذلك بهدف ضمان استمرارية عمله، وهي احكام حمالة أوجه يمكن ان تندرج في اطار حالة الاستثناء بما يعني إضافة احكام غير موجودة بالدستور وتحديدا الفصل 96 منه الذي استبعد التنصيص على بقاء مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة فترة الاستثناء وهو اجراء كان ينص عليه الفصل 80 من دستور 27 جانفي 2014. مما يمكن ان يدعونا للتساؤل عن نية المجلس احياء الفصل 80 قديم. كما يمكن ان تندرج في حالة الطوارئ التي يجب ان تنظم بقانون وفي كل الحالات هذه الاحكام المثيرة للارتباك لامكان لها بالنظام الداخلي ويمكن ان يقع التنصيص عليها، خارج حالة الاستثناء، في القانون المنظم للعلاقة بين المجلسين، او في قانون خاص (الأساليب العامة لتطبيق الدستور المطة الأولى من الفصل 75 من الدستور).
اما عن الاحكام الانتقالية والختامية، فقد نص الفصل 170 من النظام الداخلي على الاستحالة الإجرائية لتصريح النواب بالمكاسب على أساس "تعليق نشاط الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بمقتضى التدابير الاستثنائية "، والحال ان هذه التدابير قد حل زوالها بدخول دستور قيس سعيد حيز النفاذ وبإرساء مجلس نواب الشعب، فضلا عن ان حكومة نجلاء بودن احترمت هذا الاجراء عندما كانت الهيئة المذكورة "مغلقة".
أخيرا، وهو ما ورد أيضا في الاحكام الانتقالية والختامية للنظام الداخلي من ان ّمجلس نواب الشعب يمارس صلاحيات المجلس الوطني للجهات والاقاليم الى حين ارسائه وهو خرق دستوري جسيم واعتداء صارخ على الدستور وعلى صلاحيات مؤسسة دستورية أخرى وارتهان لإرادة "السلطة المؤسسة". ففي غياب التنصيص على ذلك في الاحكام الانتقالية للدستور، يعتبر اسناد المجلس لنفسه اختصاصا لم يسنده له الدستور ضربا من الاعتداء والاغتصاب للسلطة حتى وان كان بصفة وقتية. وعلى وجه الخصوص لا يمكن لهذه التنصيصات ان تدرج الا في باب الاحكام الانتقالية في الدستور كما كان الحال في باب الاحكام الانتقالية في دستور 2014 (مواصلة اعمال المجلس التأسيسي صلاحياته التشريعية والرقابية والانتخابية الى حين انتخاب مجلس نواب الشعب، مراقبة الهيئة الوقتية المحدثة بالفصل 148 من الدستور لدستورية مشاريع القوانين الى حين إرساء المحكمة الدستورية، مواصلة الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري القيام بمهامها الى حين انتخاب الهيئة الدستورية للاتصال السمعي البصري، مواصلة الهيئة الوقتية للاشراف على القضاء العدلي القيام بمهامها الى حين استكمال تركيبة مجلس القضاء العدلي). ومن استتباعات هذا الخرق الجسيم، ربما خرق نية السلطة التأسيسية (أي قيس سعيد) في تمرير قانون المالية (خاصة في علاقته بصندوق النقد الدولي) بمرسوم ومن دون المرور بمجلسي الوظيفة التشريعية، وذلك لربح الوقت وتجنب مخاطر الاقتطاعات التشريعية، وتأسيسا على نظرية الاجراء المستحيل التي سبق وان استنجد بها قيس سعيد في خلافه مع البرلمان وهشام المشيشي. وهنا تبرز فرضية غضب "السلطة التأسيسية" على "الوظيفة" التشريعية.

في الختام يمكن القول أنّ القوس الذي فتح منذ 25 جويلية 2021 او تراءى للبعض انه فتح لم يقطع مع خرق الدستور وارتهان المؤسسات الدستورية وانتهاك دولة القانون بل انّ الألغام الدستورية والقانونية لازالت تزرع في المنظومة القانونية التونسية في غياب المحكمة الدستورية.

المشاركة في هذا المقال

تعليقات42

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115