Print this page

افتتاح أيام قرطاج السينمائية: أناقة باردة !

وكأنّ السينما اختارت هذه المرة أن تدخل قاعة

حفل الافتتاح على رؤوس أصابعها، تمّ افتتاح الدورة السادسة والثلاثون لأيام قرطاج السينمائية في مشهد بدا شديد الانضباط… إلى حدّ البرودة. أضواء أنيقة، أسماء وازنة من السينما التونسية والعربية والإفريقية، وضيوف أجانب جاؤوا من مسافات بعيدة للاحتفاء بالفن السابع، لكن حرارة اللقاء التي ميّزت تاريخ "الأيام" بدت في هذه الدورة أقل توهّجا، ولم تخلق لحظة حيّة، نابضة، يشعر فيها الجميع أنهم داخل الصورة، لا على هامشها.

على إيقاع الهدوء البارد، كان افتتاح في قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي، مساء السبت 13 ديسمبر الجاري، أنيقا ومنضبطا ولا غبار عليه ولكن ثمة شيء ما ناقص، لعله ذاك النبض التشويقي ولعلها تلك الدهشة المفاجئة !

"فلسطين 36" فيلم الافتتاح

منذ اللحظات الأولى، اختار حفل افتتاح أيام قرطاج السينمائية نبرة هادئة، أقرب إلى التأمل منها إلى الاحتفال. مقطع من فيلم "نهلة" للمخرج الجزائري فاروق بلوفة، ترافقه موسيقى زياد الرحباني في عزف منفرد على البيانو لعمر الواعر، أعاد إلى القاعة شجن الذاكرة وحنينا جارفا إلى موسيقى لا تشبه إلا صاحبها. كان ذلك من أجمل لحظات الحفل وأكثرها صدقا، تحية رقيقة لزياد الرحباني الذي غاب جسدا وبقي أثره حيّا في السينما والمسرح والموسيقى.
غير أنّ هذا الاختيار الجمالي، على رهافته، رسّخ إيقاعا باردا امتدّ على كامل الحفل. غابت المفاجأة، وغاب ذلك التوتر الجميل الذي يجعل الافتتاح لحظة استثنائية، لحظة احتفال جماعي لا مجرد عرض بروتوكولي متقن. بدا كل شيء محسوبا بدقة، لكن دون اندفاع أو نبض جماهيري قادر على إشعال القاعة تفاعلا وتصفيقا.
حين صعد مدير الدورة محمد طارق بن شعبان إلى الركح، أعاد الخطاب بعض الدفء إلى القاعة. تحدّث عن فخر تونس بهذا الموعد السينمائي العريق، وعن "الأيام" كمساحة لتلاقي الأفكار والدفاع عن سينما المؤلف، مستشهدا بمقولة مارتن سكورسيزي: "لا يمكننا ترك الصناعة تقتل السينما".
في فقرة التكريمات، تعاقبت الأسماء الكبيرة: محمد الأخضر حمينة، سليمان سيسه، بولين سومانوفييرا، وليد شميط، الفاضل الجزيري، وكلوديا كاردينالي التي ربطتها بتونس علاقة وجدانية خاصة. لحظات اعتراف مستحقّة بروّاد صنعوا تاريخ السينما في الجنوب، لكنها قُدّمت هي الأخرى بنفس الإيقاع الهادئ، دون بناء درامي أو بصري يمنح هذه الأسماء ما تستحقه من احتفاء نابض بالمنجز وبالأثر الباقي مدى الحياة.
أما اللحظة التي كسرت نسبيا هذا النسق كانت تقديم فيلم الافتتاح "فلسطين 36" للمخرجة آن ماري جاسر. حضورها على الركح، وحديثها عن اعتزازها بعرض الفيلم لأول مرة في تونس، أعادا للقاعة شيئا من الروح ومن معنى الالتزام الذي وُلدت منه أيام قرطاج السينمائية. فيلم يعود إلى ثورة 1936 الفلسطينية، ويستحضر التاريخ بوصفه مرآة للراهن.

التانيت الشرفي للمنتج عبد العزيز بن ملوكة

في وفاء لمسار سينمائي طويل، كرّمت أيام قرطاج السينمائية، في افتتاح دورتها السادسة والثلاثين، المنتج التونسي عبد العزيز بن ملوكة بمنحه التانيت الشرفي، اعترافا بما راكمه من أعمال تركت أثرها في السينما التونسية وانفتحت على تجارب إنتاجية عربية وأجنبية. وقد تسلّم هذا التتويج الرمزي من المخرج محمد دمق، وسط تصفيق يختصر سنوات من العمل خلف الكاميرا وإيمانا متواصلا بقوة الصورة.
ما أثار الانتباه وربما الانزعاج، كان الغياب للترجمة إلى لغات أخرى خاصة الفرنسية أو الإنقليزية. فكلمات التقديم، وخطابات التكريم، وبرمجة الدورة، قُدّمت بالعربية فقط، في مهرجان دولي يستقبل سينمائيين ونقادا من ثقافات مختلفة. بدت هذه الثغرة التنظيمية كأنها تعزل جزءا من الحضور داخل القاعة نفسها.

165 فيلما ... وقضايا من العالم
على مستوى الأرقام، تبدو الدورة السادسة والثلاثون لأيام قرطاج السينمائية وفية لحجمها التاريخي ورهانها الإفريقي- العربي. إذ يشارك في هذه الدورة 165 فيلما، يتوزعون بين 96 فيلما روائيا و69 فيلما قصيرا، تمثل 23 دولة. ومن بين هذه الأعمال، يتنافس 54 فيلما في المسابقات الرسمية، تشمل 14 فيلما روائيا طويلا، و12 فيلما وثائقيا طويلا، و16 فيلما قصيرا، إضافة إلى 12 فيلما ضمن مسابقة قرطاج للسينما الواعدة.
وتسجل السينما التونسية حضورا لافتا من خلال 46 فيلما، موزعين بالتساوي بين 23 فيلما طويلا و23 فيلما قصيرا، في تأكيد على حيوية الإنتاج المحلي وتنوّع تجاربه، رغم التحديات التي تواجه الصناعة السينمائية في البلاد.
أما لجان التحكيم، فقد ضمّت أسماءً مهمة من صناع السينما والنقاد ذوي التجارب المؤثرة في المشهدين العربي والإفريقي، إلى جانب حضور دولي نوعي. وتترأس المخرجة والسيناريست الفلسطينية نجوى نجار لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، بعضوية الناقد الفرنسي جون ميشال فرودون، والمخرج والمنتج التونسي لطفي عاشور، والمخرج الجزائري لطفي بوشوشي، والمخرجة الرواندية كانتاراما غاهيغيري.
وفي مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، تتولى المخرجة التونسية رجاء عماري رئاسة اللجنة، إلى جانب إليان الراهب من لبنان، والمنتجة الفرنسية لورا نيكولوف، والفنانة البصرية التونسية نادية الكعبي لينكي، والمخرج السنغالي الحسن دياغو.
أما لجنة تحكيم الأفلام القصيرة وقرطاج للسينما الواعدة، فترأسها المخرج والمنتج العراقي حكمت البيضاني، وضمّت الناقد والشاعر السنغالي باسيرو نيانغ، والمخرجة والباحثة السودانية سارة سليمان، والمخرج اللبناني إلياس خلاط، والمخرجة والفنانة البصرية التونسية نادية الرايس.
في حين تترأس السيناريست المصرية مريم ناعوم لجنة تحكيم مسابقة العمل الأول (جائزة الطاهر شريعة)، بعضوية المخرج البوركيني سلام زامباليغري والمخرج والمنتج التونسي إبراهيم لطيف.
هذه الأرقام والأسماء تؤكد عمق البرمجة والاختيارات الفنية، وتضعها أمام رهان أساسي، وهو أن تنجح هذه الكثافة الفنية والإنسانية في الوصول إلى الجمهور وإحداث الفارق.

المشاركة في هذا المقال