Print this page

تمثّل الإمارات في مسابقة أيام قرطاج المسرحية: "جُرّ محراثك فوق عظام الموتى"... ماذا لو انتقم الحيوان من البشر؟

"جُرّ محراثك فوق عظام الموتى"، يبدو العنوان

وكأنه ليس مجرد مفتاح، بل جرح مفتوح. إنّه يقتحم عقل المتفرّج بتحدّ وجودي وكأنه يستفز البشر لمواجهة ما دفنوه طويلا تحت رماد النسيان، وكأنّه يساءل الحضارات التي بنيت على أنقاض بعضها بعضها، وكأنّه ينبش في جرائم التاريخ عن غريزة القتل من أجل البقاء... وهكذا يدخل المتفرّج إلى العرض الإماراتي وهو محمّل بأسئلة عن ما الذي كان... وما الذي سيكون ؟

في إطار عروض المسابقة الرسمية لأيام قرطاج المسرحية، شهدت قاعة الريو مساء الأربعاء 26 نوفمبر الجاري عرض مسرحية "جُرّ محراثك فوق عظام الموتى" من الإمارات من إخراج مهند كريم وإنتاج جمعية دبا الحصن للثقافة والتراث والمسرح.

الإنسان وحش معاصر

"في وقت البذور تعلم، وفي الحصاد علّم، وفي الشتاء استمتع. جرّ عربتك ومحراثك فوق عظام الموتى" من هذه القصيدة للشاعر الإنقليزي ويليام بليك، استوحت الروائية البولندية أولغا توكارتشوك الفائزة بجائزة نوبل للآداب لعام 2018 عنوان روايتها. ومن هذه الرواية اقتبس المخرج وصاحب النص مهند كريم مسرحيته "جُرّ محراثك فوق عظام الموتى".
بدهاء سردي وبصري، يقودنا العرض إلى قرية نائية تحفّ بها غابة مكتظة بالحيوانات البرّية. هنا تبدأ سلسلة جرائم غامضة تستهدف الصيّادين. تتصاعد حدّة التوتّر، وتطفو على السطح مواجهة بدائية بين الإنسان والكائنات الأخرى. هي حرب تحرج الإنسان الذي اعتقد أنه السيّد المطلق على الكوكب، فصار الآن مطارَدا من كائنات لاتفكر.
هذا العنوان الصادم، المقتبس من رواية أولغا توكارتشوك، ليس مجرد بطاقة تعريف. إنه اقتراح فلسفي. فهل يمكن حرث العظام؟
تنطلق الأحداث من جثة يقال إنّ حيوانا قتلها. فيصدر قرار سلطوي بإبادة جميع الحيوانات من هنا، يفتح العرض بوّابة واسعة للتأويل: هل الحيوان هو الجاني حقا؟ أم أنّ السلطة تبحث عن كبش فداء؟وهل الظلم يبدأ بخطأ بسيط… أم بعادة متوارثة؟ أي معنى العدالة حين يملك الأقوى سلطة الصوت والسيف معا؟

الطبيعة عدالة مؤجّلة
تنحاز المسرحية إلى زاوية مقلوبة. فالإنسان، الذي لطالما طارد الحيوان وقتله واستغلّه، يجد نفسه هذه المرّة في موقع الضحية أو هكذا يدّعي . من اللحظة الأولى، يشعر المتفرّج أنّ الخشبة تضيق بالشخصيات، وأنّ العالم المحيط بها خانق ومظلم. كأنّ الحضارة التي يتغنّى بها الإنسان ليست سوى واجهة لـتوحّش معاصر يدمّر البيئة ويفسد ميزان الطبيعة.
من يحاكم من؟ ومن يحقّ له البقاء؟ تطرح المسرحية سؤالها المركزي بجرأة:ماذا لو انتقمت الحيوانات؟وماذا لو كان الإنسان هو الطرف الذي يستحقّ المحاكمة؟ بهذه الفرضية، يصبح العرض ليس عن الجريمة فحسب، بل عن العدالة البيئية، عن علاقة الإنسان بالكائنات التي يشاركه الأرض، وعن هشاشة الحدود بين الضحية والجلاد.
على مستوى الرؤية الإخراجية،اختار المخرج بناء عرض يقوم على التقاطع بين المسرح والسينما. لكن يبدو أن السينما قد ابتلعت المسرح في الكثير من المشاهد. استعاض المخرج عن كثير من لحظات الركح بمقاطع فيديو جعلت اللعبة المسرحية تغيب وتنحسر في أكثر من مقطع وفصل.
استثمر مهند كريم تقنية الفيديو مابينغ ليصنع فضاء يمزج بين المشهد السينمائي والحركة المسرحية. أما الخشبة فبدت كأنها حظيرة مظلمة أو قفص كبير، صراع فيه يتكشّف بلا رحمة. وقد اعتمدت الهندسة الركحية اعتمدت على الكولاج بين الرمزي والواقعي، بين العبث والميتافيزيقيا، وبين السرد المتشظّي واللوحات التي تتشابك أصواتها ومعانيها.
في توظيف لموسيقى أوبيرالية، تمّ إضفاء مسحة درامية تعزّز توتّر الجو وتعمّق الشعور بالتيه والخطر. فجاء العنصر الموسيقي متناغما مع مناخات القصة والحبكة الدرامية.
عالم ديستوبي
على الرغم من القوة الفكرية والبصرية التي تميّز عرض "جرّ محراثك فوق عظام الموتى"، فإنّ عدّة نقاط ظلت منقوصة مدى اكتمال الرؤية وفعالية أدواتها. فالعرض، الذي يراهن على مزج السينما بالمسرح وعلى بناء عالم ديستوبي كثيف، وقع أحيانا في مفارقات بين الطموح والنتيجة على مستوى الإيقاع، وتماسك السرد، وتوزيع الأدوار داخل الفضاء الركحي. إن نص المسرحية الذي يتحدث عن وحشية الحضارة المعاصرة وبشاعة الإبادة كان يمكن أن يكون أكثر تأثيرا وتجذرا في الآن وهنا لو فتح أقواسا ولو غير مباشرة عما يحصل الآن من إبادة للشعب الفلسطيني أو السوداني أو الأقليات العرقية... لكن العرض اكتفي بتكرار أحكام قضائية حقيقية صدرت في حق حيوانات في بلدان أوروبية بسبب اعتدائها على البشر في سنوات خلت.
بعد انتهاء العرض، يبقى السؤال معلّقا:من يجرّ المحراث فوق العظام؟ هل هو المخرج الذي يكشف المستور؟ أم المجتمع الذي يدفن الجرائم؟ أم السلطة التي تخترع عدوا لتبرّر القوة؟ أم المتفرّج نفسه الذي يشاهد ولا يتدخّل؟

المشاركة في هذا المقال