Print this page

الجرايات بين الحماية والرهون: منعرج تمويل الصناديق الاجتماعية في قانون المالية 2026

نُوقِش مشروع قانون المالية 2026 في تونس

بين أروقة السلطة التشريعية والتنفيذية، وفي صباح يشي بأنّ الرتابة ستسيطر على خطابات الميزانيات. و خلف أرقام النفقات والإيرادات يختبئ سؤال أكبر، فهل يمكن للدولة أن تجعل منعرج الصناديق الاجتماعية آليات إنتاجية لا مجرد بوابات صرف؟ وهل ان عملية تمويل هذه الصناديق تعدّ عبئًا تقليديًا أم فرصة لبناء اقتصاد مستدام يربط التضامن بالنمو؟

لطالما كانت الصناديق الاجتماعية كالضمان الاجتماعي، ومنظومة التقاعد، والتأمين الصحي، والمساعدات العينية التي توجه لذوي الدخل المحدود او العائلات المعوزة الركيزة الضامنة للتماسك المجتمعي في دول العالم، لكنها اليوم وبمرور الوقت أصبحت تواجه توترات داخلية وخارجية مثل الشيخوخة السكانية، وارتفاع مؤشر البطالة و نسبة العاطلين، بالاضافة الى توسّع الاقتصاد غير المهيكل، وضغوطات الميزانيات العامة، والعجز المستمر في بعض الصناديق بسبب التوازنات المالية الهشة.

الخلفية والتحوّل البنيوي

يُذكر في دراسات متعددة أن التغطية التأمينية لا تشمل كامل الفئات العاملة، وأن كثيرين في القطاع غير المنظم يفتقدون لأي حماية اجتماعية.

كما أن الصناديق الكبرى تعاني عجزًا هيكليًا مستمرًا وموجعا حيث ، تشير المعطيات إلى أن CNRPS،صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية سجل في 2023 عجزًا بـ 600 مليون دينار، رغم أن معدل الاشتراك كان يُقدَّر بـ 23,7٪.
يرى الخبراء والمختصون في الشان المالي والاجتماعي ان هذا العجز، يهدد قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها في الجرايات والرعاية الصحية، إذا لم يُعالج هيكليًا.

نذكر أن التقرير الوطني الشامل للحماية الاجتماعية يلاحظ أن تونس سُجّلت في موقع ريادي من حيث الإطار القانوني والتنوّع المؤسساتي، لكنها تواجه ضغوطًا متزايدة على الاستدامة المالية، لا سيما مع ارتفاع التكاليف المرتبطة بالشيخوخة والبطالة وعدم وجود تغطية بطالة حقيقية.

قانون المالية 2026 و تمويل الصناديق

يحاول مشروع قانون المالية 2026 في تونس ، ولو جزئيًا، الردّ على التحديات المطروحة والتي تواجه استدامة الصناديق وحسن ادائها عبر تبنّي آليات تمويل مبتكرة وتنويع مصادر الصناديق الاجتماعية، كما ورد في مداولات الحكومة والبيانات الرسمية.

ينصّ المشروع على إعادة تصوّر التمويل من خلال آليات مبتكرة، وليس الاعتماد الكلي على الاشتراكات التقليدية، وفق ما تم التصريح به رسميا .

، يضع المشروع في أجندته تبنّي نظام متعدّد المصادر لتمويل الصناديق الاجتماعية كأحد المحاور الأساسية لتعزيز “نظام تغطية اجتماعية مستدام وكامل”.

يُقرّ المشروع بضرورة التنويع الضريبي والإسهام في الأرباح كوسائل لدعم صناديق الضمان الاجتماعي، من خلال فرضات جديدة أو مساهمات إضافية مُخصَّصة لهذه الصناديق، وذلك ضمن "إجراءات جديدة من الضرائب والمساهمات" تهدف إلى تدعيم خزائنها.

في الجانب الاجتماعي، تُعطى أولوية في المشروع لزيادة الرواتب والجرايات خلال السنوات 2026 إلى 2028، مع تحديد الزيادات بمرسوم المادة 14 و15.

كذلك، يُقرّ المشروع توسيع تدخلات صندوق الترقية السكنية الذي يعرف باسم FOPROLOS لدعم الموظفين، مما يشير إلى توجيه بعض الموارد المالية لصكوك اجتماعية جديدة.

من الناحية الكلية، يُشير النص إلى أن مشروع القانون يعتمد على ثلاث ركائز اساسية وهي تعزيز الدولة الاجتماعية، وتنمية الاستثمارات، والإصلاح الضريبي، مع التشديد على دور الصناديق الاجتماعية ضمن هذا المخطط.

هذه المقتطفات توضح أن الحكومة تدرك أزمة الصناديق الاجتماعية، وتحاول إدخال إصلاحات تمويلية، لكن التحدي يكمن في التنفيذ والتوازن بين العبء على الخزينة ومنحها الاستدامة.

الآفاق التمويليّة و مقترحات الإصلاح

أسال موضوع الصناديق الاجتماعية منذ تدني وضعيته المالية حبرا كثيرا بين من ينقد طريقة التصرف وضعف المنظومة وبين من يقترح حلولا في محاولة لتجاوز الوضعية المتردية لاهم صندوقين في المنظومة بعض الحلول التي تم تداولها كثيرا بين الخبراء والمهتمين بالشان العام يعنى بتطوير وتمويل الصناديق الاجتماعية وجعلها أدوات للديمقراطية الاقتصاديةلعل ابرزها ادخال مصادر تمويل جديدة مثل رصد مساهمات رمزية على قطاعات عالية الربح مثل التكنولوجيا، والبنوك، والطيران أو الطاقة عبر ضريبة خاصة توجَّه للصناديق الاجتماعية.
لعل فكرة إنشاء صندوق تضامن رقمي يُموَّل من أرباح المنصات الرقمية والمؤسسات الرقمية الكبرى أو من مشاركة إيرادات الإعلانات الرقمية قد تكون فكرة مميزة ، ويوجَّه لدعم المنظمات الاجتماعية والفئات الهشة وكذلك تشجيع الشمول والعمل الرسمي
من خلال تقديم حوافز ضريبية وخفض تكاليف الانخراط للعمال في الاقتصاد الرسمي، لتشجيع تحويل العمل غير المنظّمة إلى النظام القانوني.
تحدث كثيرون عن إطلاق حملات توعية ومرافقة قانونية لتسهيل الانتقال من القطاع الموازي إلى الرسمي، خصوصًا في الحرف الصغيرة والأنشطة الريفية علاوة على تخصيص جزء من أصول الصناديق إن توفر ذلك للاستثمار في مشاريع إنتاجية مستدامة مثل الطاقة المتجددة، أو البنية التحتية الخضراء، بحيث توفر عائدات مستمرة تدعم الصندوق لاحقًا.
بالاضافة الى إنشاء شراكات بين الصناديق والمؤسسات العامة أو الخاصة لاستثمار الأموال في مشاريع ذات مردود اجتماعي اقتصادي. وهي افكار طرحت في العديد من اللقاءات والمناسبات قد تساعد على تجاوز الممر الضيق أو ربما يصعب أخذها بعين الاعتبار .

أزمة التمويل وتآكل الموارد

تعاني أغلب الصناديق الاجتماعية في العالم، وخاصة في الدول النامية، من اختلال هيكلي بين المداخيل والمصاريف، وارتفاع معدلات الشيخوخة، وتوسع الاقتصاد الموازي، بالاضافة الى تعمق البطالة المزمنة، وتراجع نسب المساهمين الفعليين وجميعها أدت إلى فجوة مالية متنامية.
في تونس مثلاً، تجاوزت ديون الصناديق الاجتماعية ال 8 مليار دينار، في حين تعاني صناديق كبرى مثل CNRPSمن عجز سنوي متكرر يهدد قدرتها على صرف الجرايات بانتظام.
أما في أوروبا، فقد تم اعتماد حلول مبتكرة كـ"النظام الهجين" الذي يجمع بين التمويل العمومي الجزئي وتوظيف رأس المال الاجتماعي في استثمارات مستدامة وهي تجربة نجحت في العديد من الدول على غرار فرنسا وكندا والمغرب

 

تساؤلات محورية

تطرح العديد من الاسئلة المحورية حول افاق الاصلاحات المتعلقة بوضعية الصناديق الاجتماعية في تونس وما تم اقتراحه في قانون المالية لسنة 2026 فهل يمكن للدولة أن تُفرّق بين تمويل إنفاق اجتماعي وتمويل لتنمية اجتماعية بحيث تتحوّل الصناديق إلى محرك اقتصادي لا عبء مالي فقط؟
وإذا اضطرت الحكومة إلى فرض ضرائب إضافية لدعم الصناديق، فهل هذا سيُثقل كاهل المواطن أم يُرحّب به إذا رافقه شفافية وكفاءة؟

هل بإمكان الصناديق الاجتماعية أن تستوفي استقلالًا ماليًا كاملًا بمعزل عن التحويلات الحكومية؟ وما هو الحدّ المعقول لذلك؟ وماذا لو أصبحت الصناديق الاجتماعية مستثمِرة قوية في الاقتصاد بدلاً من مستهلكة الموارد؟ هل سيتحوّل دورها إلى توزيع الثروة وليس فقط صيانة الحقوق؟ كيف يتوازن التمويل بين استدامة الصناديق ومرونة الدولة في مواجهة صدمات اقتصادية؟

رؤية متجددة للدولة الاجتماعية

في ختام هذا التحليل، نرى أن تمويل الصناديق الاجتماعية ليس مجرد جانب روتيني يتعلق بالميزانية ويُناقش في مجلس نواب الشعب، بل هو مؤشر على صحة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. إن مشروع قانون المالية 2026، رغم التحديات والقيود، يقدم إشارات تفيد بأن صناع القرار يسعون إلى إعادة توازن الصناديق عبر آليات تمويل جديدة وتنويع الاعتماد، ولكن الطريق طويل، ويتطلب الاستمرارية في الإصلاحات والالتزام بالمراقبة والشفافية.

إذا نجحت الحكومة في تحويل الصناديق الاجتماعية إلى آليات إنتاجية بمعنى أن تُولّد قوة شرائية وطنيّة من خلال استثمارها وتفعيلها في مشاريع منتجة فقد نتمكن من تخفيف العبء على الخزينة وتحويل العدالة الإجتماعية إلى رافعة للاقتصاد نفسه.

فلتكن هذه الصناديق لا مجرد خزائن صرف، بل أدوات بناء أجيال متينة، لا تُخلّد الضحية ولا تُلهب الدين، بل تُشرك المواطن في مسيرة الكرامة والتنمية.

 

المشاركة في هذا المقال