بعد لقاء جمع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، تبدو ملامح التفاؤل مشوبة بالحذر، وسط استمرار الانقسام المؤسساتي، وتصاعد التوترات الإقليمية، واستمرار الجدل حول حياد البعثة الأممية في البلاد.
ووفق مراقبين بدا الاجتماع الأخير بين الدبيبة والمنفي في ظاهره خطوة إيجابية باتجاه التوافق، حيث ناقش الطرفان قضايا تتعلق بتوحيد الجهود التنفيذية والسياسية. إلا أن صلاح البكوش، المستشار السياسي السابق بالمجلس الأعلى للدولة، يرى أن التاريخ الليبي الحديث يعج بتفاهمات لم تخرج من نطاق التصريحات، محذرا من أن ''ما يبدو جيدا على الورق لا يترجم عادة إلى أفعال ملموسة على الأرض''.
ورغم الحديث المتكرر عن توافقات سياسية لا تزال ليبيا تعاني من ثنائية سلطوية حادة، تتمثل في حكومتين متنافستين إحداهما في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والأخرى في الشرق بقيادة أسامة حماد، المعيَّن من قبل مجلس النواب المدعوم من المشير خليفة حفتر.
هذه الانقسامات لم تعد مجرد خلافات إدارية، بل تحولت إلى ما يشبه النظام الفيدرالي الفعلي غير المُعلن، حيث تتوزع الصلاحيات والموارد والنفوذ الأمني بشكل مجزّأ، مما يضعف فرص التوافق ويجعل من كل حوار سياسي رهينةً لحسابات السيطرة الجغرافية وموازين القوة الميدانية.
ورغم التهدئة الظاهرية في طرابلس، إلا أن المدينة ما تزال خاضعة لنفوذ ميليشيات متعددة الولاءات، بعضها يرتبط بالحكومة، وبعضها الآخر يتحرك وفق حسابات فصائلية أو مناطقية. هذا المشهد المعقد جعل من أي اتفاق سياسي غير قابل للتنفيذ إلا بترتيب أمني موازي، وهو ما تفتقر إليه الأجسام السياسية الحالية. فحتى حين يعلن عن تفاهمات، كما حدث في لقاء الدبيبة والمنفي، فإن تطبيقها يتوقف على مدى قبول المجموعات المسلحة بها، وهو أمر غير مضمون في ظل غياب قيادة أمنية موحّدة.
مساع أممية
من جهتها، تحاول بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الحفاظ على موقعها كوسيط محايد، وسط اتهامات متزايدة بانحيازها لأحد أطراف النزاع. إذ نفت المبعوثة الأممية هانا تيتيه بشدة تلك الاتهامات، مؤكدة التزام البعثة بـ''دعم تطلعات الليبيين لا فرض أجندات خارجية''، في إشارة إلى الاحتجاجات الأخيرة أمام مقر البعثة في طرابلس.
لكن تصريحات تيتيه قوبلت بتشكيك من أطراف ليبية. فقد حذر النائب علي الصول من أن أي تحركات دولية تتجاوز المؤسسات المنتخبة تمثل "انحرافا خطيرا عن مهام البعثة"، مشددا على أن الحل يجب أن ينبع من داخل البيت الليبي، لا أن يفرض عليه من الخارج.
ورغم هذه الأزمات، تسعى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات إلى إعادة إحياء المسار المحلي من خلال انطلاق مرحلة توزيع بطاقات الناخبين للمجالس البلدية (المجموعة الثانية – 2025)، وهي خطوة مؤجلة منذ العام الماضي لأسباب أمنية ولوجستية.
ويُنظر إلى هذه الخطوة على أنها مؤشر محتمل على استعادة الثقة في مؤسسات الدولة المحلية، لكن محللين يشيرون إلى أن الانتخابات البلدية، رغم رمزيتها، لن تكون بديلاً عن استحقاق وطني شامل يعيد ترتيب السلطة التنفيذية والتشريعية بشكل توافقي.
وفي ظل هذه المعطيات، تبدو طرابلس حاليا وكأنها تعيش هدوءا سياسيا هشا، سرعان ما قد ينقلب إلى فوضى إذا ما انهارت التفاهمات الهشة أو تدخلت أطراف خارجية لفرض توازنات جديدة. فالدولة الليبية لا تزال ممزقة بين حكومتين متنافستين ومؤسستين عسكريتين متصارعتين، بينما يعاني المواطن الليبي من تدهور المرافق والخدمات وسط انعدام اليقين بشأن المستقبل السياسي.
كما فقد الشارع الليبي ، الثقة في المسارات السياسية التقليدية والأجسام المنقسمة، ويرى أن الحل يكمن في اتفاق وطني شامل يقوده الليبيون أنفسهم، بعيدا عن مناورات الخارج وحسابات المصالح الإقليمية والدولية.
النفط في قلب الصراع
وعلى صعيد متصل يرى مراقبون أن النفط لا يزال المورد الحيوي للاقتصاد الليبي، يمثّل عنصر ابتزاز سياسي وورقة ضغط متبادلة بين الأطراف المتنازعة. ففي حين تؤكد المؤسسة الوطنية للنفط سيادة ليبيا على مواردها البحرية، إلا أن الانقسام السياسي يعقّد عملية استثمار هذه الموارد بشكل آمن ومستدام.
وقد برزت مؤخرا تحذيرات غير مباشرة من تعطيل إنتاج أو تصدير النفط، في حال لم تُوزع العوائد بشكل عادل، وهو سيناريو تكرر في السابق ويخشى تكراره إذا ما استمر الانقسام المؤسساتي.
ووفق خبراء فإن ليبيا لا تعيش أزمتها بمعزل عن الإقليم، بل إنها تمثل نقطة تقاطع إستراتيجية لمصالح دولية وإقليمية متشابكة. من جهة، هناك اصطفاف داعم لحكومة طرابلس، يقابله محور داعم للشرق الليبي يضم بدرجات متفاوتة.
فعلى الصعيد الإقليمي، عاد التوتر بين ليبيا واليونان إلى الواجهة، حيث أصدر أسامة حماد، رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، بيانا شديد اللهجة حذّر فيه أثينا من عواقب ما وصفه بـ"التحريض والتصعيد"، مؤكدا أن ليبيا تحتفظ بحق الرد على أي مساس بسيادتها.
ويأتي ذلك في وقت جددت فيه المؤسسة الوطنية للنفط تأكيدها على الحقوق السيادية لليبيا في موارد شرق المتوسط، في إشارة إلى تصاعد الخلافات البحرية حول اتفاقية ترسيم الحدود بين حكومة الوفاق السابقة وتركيا عام 2019، التي لا تعترف بها دول مثل اليونان ومصر.
فالتحركات اليونانية الأخيرة، ورد الفعل الليبي الرسمي عليها، أعادا تسليط الضوء على حساسية الملف البحري الليبي شرق المتوسط، وهو ملف يتداخل فيه الاقتصاد بالسيادة، ويغذيه التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى حول مصادر الطاقة.
ورغم الحضور الأمريكي المتزايد في الملف الليبي من خلال مبعوثين ومستشارين، إلا أن تأثير واشنطن لا يزال محصورا في دائرة الضغط الدبلوماسي غير المصحوب بإجراءات تنفيذية صارمة. فقد اقتصرت التدخلات الأمريكية على التصريحات والدعوات للحوار، دون الدخول في وساطة حقيقية قابلة للترجمة الميدانية. ويشير مراقبون إلى أن المجتمع الدولي، بما فيه الأمم المتحدة، أخفق حتى الآن في رعاية عملية سياسية شاملة ومستقلة، بل إنه ساهم أحيانا في تكريس الانقسام .