Print this page

كتاب "حياتي في الصحافة: من الهواية إلى الاحتراف" لمحمود الحرشاني فصول من العمر والحبر في حضرة صاحبة الجلالة

"حياتي في الصحافة: من الهواية إلى الاحتراف" هي شهادة من الزمن

الورقي الجميل، من زمن كانت فيه الكلمة مسؤولية لا "ترند"، وكانت الجريدة صديقة مدللة. هو كتاب لمن يحبّون الصحافة، ومن يخافون عليها، ومن يؤمنوا بأنّ وراء كل مقال… إنسان.

من صفحات الصبا الأولى، من تلك الخطوات التي كانت تتهجّى الحروف الأولى في الصحف الجهوية إلى أن أصبحت الصحافة بيته والحبر وطنه، لا يكتفي محمود حرشاني بأن يروي سيرته، بل يوثق لمحطات مفصلية عاشتها تونس
يتقاطع فيها الذاتي بالمهني، والحميمي بالوطني.

في كتابه الجديد الصادر حديثا، يفتح الكاتب والصحفي التونسي محمود الحرشاني نافذة خاصة على حياته ومسيرته الصحفية التي امتدت لسنوات طويلة، حيث يوثق تفاصيل الرحلة من مجرد هواية إلى احتراف مهنة الصحافة قدرا وهوية وهوى.

ذاكرة وطن من نافذة صحفي !

لايجمّل الكلمات ولا يزخرف الذكريات، بل يعرّيها من التجميل. يقول محمود الحرشاني الحقيقة كما عاشها... يذكر المحطات الحلوة كما اللحظات الموجعة، يعترف بالإخفاق مثلما يحتفي بالنجاح. وهنا تكمن فرادة هذه المذكرات: الصدق. هو ذاك الصدق النابع من رجل لم يكتب تاريخه ليحشو سيرته، بل ليشهد على زمن، وعلى جيل، وعلى معارك صغيرة يومية كان مدادها الحبر وبطلها الصبر.

يحمل العنوان نفسا توثيقيا شخصيا يزاةوج بين التجربة الذاتية والبعد المهني في جملة موجزة ولكنها كاشفة: "حياتي في الصحافة: من الهواية إلى الاحتراف".
من بين السطور، تطلّ علينا ملامح وطن كامل. إنّها تونس التي عبرت من الورق إلى الذاكرة، من حبر المطبعة إلى نبض المقهى الثقافي. نلمح صور الصحافة الجهوية، وهموم الإعلام الثقافي، وتحولات البلاد كما رآها قلم محمود الحرشاني الذي كان يكتب من الهامش لا ليظل فيه، بل ليصنع منه مركزا للحقيقة.
يكشف الكتاب عن انتصارات الصحفي الحر وعن خيبات الصحفي الملتزم، وعن بهجة من يجد اسمه في رأس العمود، لكن قلبه يظل مع القارئ البسيط هناك… في الجريدة الصغيرة، وفي القرية المنسية.
من خلال هذه السيرة الذاتية والمهنية، يقدم محمود الحرشاني تجربة ملهمة للعمل الصحفي، مزج فيها بين القصة الشخصية والواقعية المهنية، مؤكدا على أن الشغف والعمل الجاد يمكن أن يحولا الهواية إلى مسيرة احترافية ناجحة.

أسلوب إنساني دافئ

بأسلوبه السلس البسيط ، وبروح السرد الإنساني لا يتعالى محمود الحرشاني على القارئ، بل يخاطبه بندية الصداقة . دون بهرجة لغوية، ودون بذخ لفظي ولكن بتشويق ممتع يحافظ على حرارة النَفَس الأدبي، يبدو صاحب الكتاب وكأنه يروي حكاية قديمة ويبوح بذاكرة دفينة عن الذي كان و عن الكائن وعن الذي سيكون ربما !

جاء الكتاب في حوالي 198 صفحة، لا ليروي فقط مراحل التعليم والدراسة، بل يحكي عن الشغف الذي دفعه كل يوم يقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام للوصول إلى المدرسة، وعن شخصيات بسيطة لكنها تركت أثرا عميقا في حياته مثل حارس المدرسة "حمّة الزياني".

ينتقل القارئ مع محمود من عوالم الطفولة إلى شباب ملؤه النشاط والحماس، حين بدأ يخطو أولى خطواته في الصحافة من خلال مجلة المعهد، وصولا إلى إعداده لأول برنامج إذاعي في إذاعة صفاقس، ثم عمله كمراسل جهوي للإذاعة والتلفزة ووكالة تونس إفريقيا للأنباء، حيث كانت له بصمات إعلامية واضحة في تغطية الأحداث في مختلف ولايات تونس.

ولم تقتصر تجاربه على الداخل فقط، بل حمله شغفه ليكون المراسل الأول الذي يغطي موسم الحج من البقاع المقدسة، مقدما يومياته الإذاعية للمستمعين التونسيين. كما توثق صفحات الكتاب لقاءاته مع قامات وطنية بارزة، وأحداث مفصلية مثل الهجوم على قفصة والمؤتمر الاستثنائي للاتحاد العام التونسي للشغل عام 1988.

يأتي كتاب "حياتي في الصحافة" كعنوان جديد ينضاف إلى رصيد الكاتب الحافل، الذي يشمل العديد من الكتب في أدب الرحلات والبحوث، بالإضافة إلى خمس روايات وقصص للأطفال واليافعين، كما أنه شخصية ثقافية فاعلة عبر رئاسته لمهرجان مرآة الوسط الثقافي، ومساهماته في صحف ومجلات تونسية وعربية بارزة.

في "حياتي في الصحافة" يستذكر محمود الحرشاني الوجوه والمواقف والتغطيات واللقاءات و لحظات دهشة وأخرى من التعب النبيل… هي رحلة عمر، لا بطولات فيها ولا مبالغات، فقط حكاية رجل أحبّ صاحبة الجلالة… وبادلته الكلمة عمرا من الوفاء.

المشاركة في هذا المقال