حيث يعانق حنين الذاكرة تقنيات الترميم، وتُبعث الحياة في الأشرطة المهجورة، تستعد السينما التونسية لتألق غير مسبوق في مهرجان "السينما المُستعادة" ("Il Cinema Ritrovato") عن طريق عرض ثلاثة عناوين سينمائية بارزة في نسخ مرممّة وهي : "ريح السد" لنوري بوزيد و"العرس" لفرقة المسرح الجديد و"كاميرا عربية"لفريد بوغدير.
من تونس إلى بولونيا... ومن كاميرات الماضي إلى شاشات المستقبل، ثلاث تحف سينمائية تونسية تُبعث من جديد، لتروي للأجيال حكاية شعب وثقافة وهوية. تسجل النسخ المرممة لأفلام "العرس" و"ريح السد" و"كاميرا عربية" حضورها في مهرجان "السينما المستعادة"أحد أعرق التظاهرات العالمية المخصصة لترميم الأعمال الكلاسيكية وإحياء الأرشيف السينمائي من 21 إلى 28 جوان 2025.
"العرس"… حين يُحتفى بالسينما كما يُحتفل بالحب
من رحم فرقة المسرح الجديد، وبتوقيع أسماء بحجم جليلة بكار وفاضل الجعايبي ومحمد إدريس ورفاقهم يولد فيلم "العرس" من جديد. بعد ترميم شاق أشرفت عليه السينماتيكا البرتغالية باستخدام أحدث تقنيات الصوت والصورة، تُعرض النسخة المرمّمة بدقة 4K، يوم 27 جوان الجاري ، على شاشة بولونيا، بحضور الفنانة جليلة بكار. العرض ليس مجرد استعادة لفيلم وُلد عام 1978، بل احتفاء بإرث مسرحي وسينمائي أحدث رجّة في زمنه، وما زال يهمس في ضمير المتفرج بأنّ الوجه الحقيقي للحياة الزوجية ليس نموذجا بل اختبارا يحتمل كل المسارات.
"ريح السد"… حين يتحوّل الجرح إلى قصيدة بصرية
في 1986، وضع نوري بوزيد يده على الجرح. "ريح السد" لم يكن مجرد عمل سينمائي، بل شهادة فنية على مجتمع يبحث عن صوته. واليوم، تعود هذه القصيدة الموجعة إلى الشاشة بفضل تعاون استثنائي بين سينماتيك بروكسل وسينيتيكا دي بولونيا، تحت إشراف مختبر "الصورة المستعادة". العرض العالمي الأول سيكون يوم الأحد 22 جوان الجاري، في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر في لحظة سينمائية مشحونة بكل الدلالات.
"كاميرا عربية"… حين يؤرّخ فريد بوغدير بعيون عاشقة
بعد أن جاب بنا في "كاميرا أفريقيا" عوالم مجهولة ومهملة من الذاكرة البصرية للقارة، يعود فريد بوغدير ليُكمل مشروعه في "كاميرا عربية". هذا الوثائقي، الذي رُمّم في المركز الوطني الفرنسي للسينما، يحظى بعرضه العالمي الأول في بولونيا يوم 24 جوان الجاري ، في السادسة والربع مساءً. لحظة يُنتظر أن يرافقها حضور المخرج فريد بوغدير في حوار حيّ بين الذاكرة والشهادة، بين المؤرخ والعاشق.
جمعية "جنوب للتراث السينمائي" تُحيي الذاكرة وتبثّ فيها النبض
بين حنين الصورة وجرأة المضمون، بين ترميم الأشرطة واستعادة الروح، تمضي السينما التونسية لتؤكد أنها ليست مجرد تاريخ... بل ذاكرة حيّة تُستعاد لتُعاش من جديد. وراء هذا الحضور التونسي اللافت، تقف جمعية "جنوب للتراث السينمائي" التي ما انفكّت تشتغل في صمت وبصيرة من أجل إحياء كنوزنا المنسية، وتثمين أرشيفنا الوطني في أكبر منصات السينما العالمية.
في مهرجان "السينما المُستعادة"، حيث ستُعرض أفلام نادرة بعد ترميمها بتقنيات 2K و4K، ستتألق تونس بثلاثة أعمال: "العرس"، "ريح السد" و"كاميرا عربية". هذه اللحظة الفارقة لم تكن وليدة الصدفة، بل ثمرة سنوات من الجهد الدؤوب لجمعية "جنوب للتراث السينمائي"، التي تأسست على يد أربعة عشاق للسينما: محمد شلوف وكاهنة عطية وفايزة مرابط دلدول وعبد الله يحيى.
وقد نسجت الجمعية على امتداد سنوات علاقات تعاون مع أعرق المؤسسات الأوروبية المختصة في أرشفة وترميم الأفلام: من سينماتيك بروكسل إلى مؤسسة ديفا في برلين مرورا بسينماتيكا لشبونة وسينماتيك تولوز وسينيتيكا دي بولونيا.هذه الشراكات المدعومة من وزارة الشؤون الثقافية التونسية ومجموعة من المنتجين المتحمسين، أثمرت ترميم باقة من الكنوز السينمائية: "الهائمون"، "تحيا الموت"، "المخدوعون"، "عبور"، "معسكر تياروي"، "ظل الأرض"، "حميدة"...
منذ عام 2015، تنظم جمعية "جنوب للتراث السينمائي" في سوسة تظاهرة فريدة من نوعها وهي "سينما المتحف" في ادارة فنية لمحمد شلوف بدعم من المركز الوطني للسينما والصورة. هذه المبادرة، التي تحتفل بعامها العاشر في 2025، تُعد الأولى من نوعها في إفريقيا والعالم العربي، وتعمل على تثمين التراث السمعي البصري التونسي والعالمي، وتقديمه في قوالب فنية جذابة للأجيال الجديدة، لتظل ذاكرة الصورة حية ونابضة وملهمة.