Print this page

تأثيرات 'المزاج الثوري ' لترامب على المحددات التقليدية للدبلوماسية الأمريكية

مايزال الجدل الذي يحدثه الرئيس ترامب - قبل ومنذ توليه منصبه رسمياً -

يشغل مساحة كبيرة من إهتمامات وسائل الإعلام ومراكز الفكر الدولية ، لاسيما أن تحركاته وتصريحاته تمثل خروجاً عن المحددات التقليدية التي تتحرك في إطارها الدبلوماسية الأمريكية ( العلاقات مع روسيا - مستقبل حلف الناتو - الأمن الأوروبي ).وبصرف النظر عن المواجهات الكلامية التي شهدها البيت الأبيض خلال زيارة الرئيس الأوكراني زيلينسكي ، فإن دائرة التصريحات الجدلية من جانب ترامب تتسع لتشمل قضايا ودول متنوعة. وفي حين تم التراجع - نسبياً- عن بعض التصريحات الحادة ، خاصة فيما يتعلق بتوجه ترامب نحو تأجيل فرض رسوم جمركية علي المكسيك وكندا، فقد وقَّع الرئيس الأمريكي أمرًا تنفيذيًا الأسبوع الماضي بفرض رسومٍ جمركية بنسبة 20% على الصين. وسيتم فرض رسومٍ إضافية بنسبة 10% على الصادرات الصينية، تُضاف إلى الـ10% التي فرضها "ترامب" في وقتٍ سابق من هذا العام الجاري. وهو ما يؤشر إلى تباهي ترامب بقدرته على التعاطي مع جبهات متعددة في نفس الوقت لتأكيد سطوة بلاده على المشهد العالمي وسعيه لتحقيق مصالح الشعب الأمريكي بأي ثمن.

ويلاحظ هنا أن الصين قررت تطبيق رسوم جمركية إضافية على مجموعة من المنتجات الزراعية الأمريكية، اعتبارًا من أمس الإثنين؛ ردًا على فرض الرئيس الأمريكي المزيد من الرسوم الجمركية على الواردات الصينية. ولا يمكن إغفال أن التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة تفاقم الصعوبات التي تواجهها السلطات الصينية من أجل تحقيق استقرار الاقتصاد، الذي يشهد تباطؤًا في الاستهلاك وأزمة في قطاع العقارات وارتفاع معدل البطالة، وإن كان ذلك لا يعني أن بكين غير قادرة على المحافظة على صعودها وتأثيرها على مستقبل الإقتصاد العالمي.
وإتصالاً بالصدمات التي تثيرها تصريحات ترامب سواء على الداخل الأمريكي أو على مستوي الحلفاء ، وبصفة خاصة تصوراته لواقع ومستقبل علاقات التنسيق والتعاون مع القارة العجوز ' أوروبا ' ، كشفت صحيفة "التلغراف" مؤخرًا أن الرئيس الأمريكي يدرس سحب 35 ألف من القوات الأمريكية في ألمانيا وإعادة نشرها في أوروبا الشرقية. وهذه الخطوة ستزيد من توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا.
علماً بأن الصحيفة قد نشرت أول أمس خبراً يُفيد بأن الولايات المتحدة قد أخطرت حلفاءها أنها لن تشارك بتخطيط المناورات العسكرية في أوروبا، بدءًا من العام المقبل، وقرار "واشنطن" يعني أن قواتها لن تشارك في المناورات مع نظيرتها الأوروبية أو أن مشاركتها ستكون محدودة.

وفي الإطار ذاته، تطرقت بعض التقديرات الإعلامية إلى تفكير الرئيس ترامب في إعطاء ظهره لحلف الناتو . وأشارت صحيفة ' ديلي ميل ' البريطانية إلي تفكير ترامب في التخلي عن الدور القيادي لبلاده في حلف «الناتو». ويُصرُّ على أن تتحمَّل المملكة المتحدة وفرنسا مزيدًا من المسؤولية فيه، وذلك بعد أن فاجأ الحلفاء الغربيين بتعليق المساعدات العسكرية الحيوية إلى أوكرانيا، إثر «شجار البيت الأبيض». ويأتي ذلك في وقتٍ أبْدى فيه كلٌّ من رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الفرنسي استعدادهما للسفر إلى واشنطن مع «زيلينسكي» لتقديم جبهةٍ موحَّدة بشأن خطة للسلام في أوكرانيا .

دفعت تلك التقلبات في محددات السياسة الخارجية الأمريكية الدورية السياسية ذائعة الصيت The National Interest لنشر تقرير يحمل عنوان ' لماذا لا يستطيع ترامب تحقيق السلام في أوكرانيا أو غزة !؟' ويركز على أن مساعي صُنْع السلام من قِبَل الولايات المتحدة من دون وجود أطرافٍ راغبة ــ سواء بين روسيا وأوكرانيا، أو بين إسرائيل وحماس ، فمن المؤكَّد أن يأتي بنتائج عكسية ويزرع بذور مزيدٍ من الحرب.
هذا، وقد ذهب التقرير إلى حد الجزم بأن استماتة «واشنطن» لتحقيق السلام، حتى لو كان سلامًا أجوفًا لا يُوفِّر سوى فترة راحةٍ قصيرة قبل عودة القتال، قد تجعل الحرب أكثر ترجيحًا في أماكن أخرى ، وأنه مهما كانت «العصا والجزرة» المتاحة في يد «واشنطن» قوية، فإنها لا تستطيع فرض السلام من الخارج، والأسوأ من ذلك في تقدير كاتب التقرير ' لورانس جيه هاس ' أن واشنطن التي تبدو باحثةً من أجل السلام ــ بغضِّ النظر عن عدالة شروطه، أو احتمالات استدامته ــ قد تمنح القادة في مناطق أخرى الذين يُفكِّرون في شن حروبهم الخاصة، ضوءًا أخضر.

وعليه ، إذا إنتقلنا إلى الأزمة الإنسانية المتواصلة في غزة سنجد أن المسألة ليست مجرد إتفاق وقف إطلاق النار بل ضمان إستدامته . وكذلك هناك ضرورة مُلحة لتكثيف واشنطن التحركات الدبلوماسية الموضوعية وليست المنحازة ، من أجل إنهاء القرارات التعسفية التي تصدرها تل أبيب بين الحين والآخر بوقف دخول جميع السلع والإمدادات - ومنها المعدات الطبية - إلي القطاع . ويضر عدم التحرك العاجل والحاسم بمصداقية المجتمع الدولي وصورة واشنطن في المنطقة .
يشار الى ان الرئيس المصري في الكلمة التي ألقاها في الجلسة الإفتتاحية للقمة العربية الإستثنائية أشار خلالها إلى أن الذاكرة الإنسانية ستتوقف طويلاً أمام ما يحدث في غزة بعد ما استهدفت الحرب الضروس علي غزة تدمير أوجه وسبل الحياة ، فضلاً عن السعي المتواصل إلى تفريغ القطاع من سكانه . وأعرب عن تطلع مصر والدول العربية لأن تستمر وتتواصل جهود واشنطن لضمان إستدامة وقف إطلاق النار في غزة .
في سياقٍ موازٍ، بدأت التقلبات التي تتسم بها السياسة الخارجية لترامب في الأسابيع الأولى من توليه منصبه تؤثر -سلباً - على فئات مهمة بالرأي العام الأمريكي نفسه. وأرسل دبلوماسيون في وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، برسالةٍ إلى وزير الخارجية الأمريكي، يُعربون فيها عن احتجاجهم على قرار تفكيك الوكالة. وأكَّد كاتبو الرسالة أن غياب هذه الوكالة سيُؤدِّي إلى تقويض القيادة الأمريكية وأمنها، ويترك فراغًا للصين وروسيا. كما وجَّهت المحكمة العليا ضربةً لـ"ترامب" فيما يتعلَّق بتجميد المساعدات الخارجية؛ إذ أعادت العمل بقرار محكمةٍ أدنى يفرض الإسراع بصرف ما يصل إلى مليارَي دولارٍ مستحقة للمقاولين عن أعمالٍ تم إنجازها بالفعل.

تبقي العلاقات مع أوروبا هي الدليل الأبرز علي الحالة المزاجية الترامبية غير التقليدية التي تؤثر على المحددات التقليدية في السياسة الخارجية لواشنطن، فعقب خطاب ترامب أمام الكونغرس الأسبوع الماضي ، ومع الإقتراب من النصف الأول من الـ100 يوم الأولي ، تعتزم إدارة "ترامب" إغلاق عشرات القنصليات الموجودة بشكل رئيسي في أوروبا الغربية خلال الأشهر المقبلة، مع احتمال إغلاق المزيد من البعثات الدبلوماسية، الأمر قد يوجه ضربة لجهود بناء الشراكات وتعزيز القائم منها بين واشنطن والحلفاء الأوروبيين.
وفي مقابل تذبذبات العلاقات مع أوروبا فإن التقارب بين ترامب وموسكو أصبح حديث الدوائر الإعلامية والدبلوماسية ، وعلي الرغم من تقديرات المناصرين لتوجهات ترامب أن ذلك التقارب يهدف إلي شد موسكو بعيداً عن بكين ، إلا أن بعض التقديرات تشير إلي أن ذلك التقارب يصب في صالح الصين وقد يساعدها في تعزيز نفوذها . ونشرت 'ذا غارديان ' خبراً بأن الحكومة الأمريكية تدرس سبل تخفيف العقوبات على قطاع الطاقة الروسي، في إطار خطة واسعة النطاق تهدف إلى تمكين "واشنطن" من رفع العقوبات سريعًا، إذا وافقت "موسكو" على إنهاء الحرب في أوكرانيا.

المشاركة في هذا المقال