وبعد أشهر من الإقامة في رفح، أُجبرت مرة أخرى مع عائلتها على النزوح نحو مدينة حمد في خان يونس.
والأسبوع الماضي، أُجبرت على النزوح إلى مواصي خان يونس، وتقيم الآن في خيمة مع أهلها أمام بحر خانيونس، وتحت نار الشمس والقصف.
تلخص شمس ما تعانيه بقولها: “شوب مش طبيعي، وجهي أسود أسود، وجسمي كله حرارة أنا وماما. بضحك على الكاميرا بس ورا الكاميرا غير، والله حياة الخيمة صعبة كثير”. وتضيف: ”ما توقعت تكون صعبة لهدرجة، ”بس بنقول الحمد لله أحسن من غيرنا”.
الموت والدمار رعب مستمر لا يمكن تصوّره، وإسرائيل مستمرة في تبريره وإنكاره. وهذه جريمة لا يمكن تبريرها ولا تُغتفر، هي جريمة غير إنسانية، إذ ما زالت السلطات الإسرائيلية مُستمرة في العمليات العسكرية، وتجبر عشرات آلاف العائلات على النزوح عبر أوامر إخلاء شبه يومية، بينما لم تعد هناك أماكن للإقامة، إذ تقلصت ما تُسمى بـ “المنطقة الإنسانية” إلى 11 في المئة فقط من مساحة قطاع غزة، ما أثار الخوف والفوضى بين النازحين.
يلجأ الكثيرون إلى أجزاء من منطقة المواصي في وسط قطاع غزة، ووفقاً لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، يعيش حوالى 30,000 شخص في كل كيلومتر مربع هناك، مقارنةً بـ 1,200 شخص لكل كيلومتر مربع قبل الحرب.
“وين نروح؟”
أصبحت أوامر الإخلاء اليومية نوعاً من المتعة للجيش الإسرائيلي، وفي الأسبوع الماضي صدرت أوامر إخلاء جديدة لشرق خان يونس، وحالياً هناك نحو ربع مليون فلسطيني في حالة نزوح مستمرة منذ شهرين.
جنون أوامر النزوح والإخلاء الفوري مستمرة، ولا يملك الناس ترف التفكير والعناد، مع أن عدداً منهم رفض الأوامر لعدم وجود مكان يذهبون إليها، فقُتلوا، لكن الغالبية تمارس النزوح القسري والبكاء المرير والسؤال المعلّق في حلقها دوماً: “وين نروح؟”.
في وسط الإبادة المستمرة، لم يتبقَّ أي شيء من الإنسانية سوى الكلمات، وجميع ممارسات السلطات الإسرائيليّة ليست إلا استمراراً لجهود تجريد الفلسطينيين في قطاع غزة من إنسانيتهم. وأكثر شيء يفكر فيه الناس ويرغبون فيه هو وقف الحرب والعودة الى إنسانيتهم ومنازلهم وحياتهم الطبيعية.
تتبلور سياسة تهجير الفلسطينيين عملياً هنا، وهي سياسة طويلة المدى “لليوم التالي”. رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، منظر الحرب ومهندس سياسة التجويع، يقترح تجويع الفلسطينيين حتى الموت، أو طردهم إلى الشتات، كوسيلة ضغط على “حماس”.
هذه السياسة/ المقترح نعيشه يومياً، والناجون من الإبادة حتى اللحظة، يتم هندسة حياتهم لتؤدي إلى الموت، بسبب انتشار الأمراض والأوبئة وانهيار البنية التحتية، وجريان مياه الصرف الصحي في الشوارع، ما خلق بيئة ملوثة ومنظومة صحيّة فقدت كل مقومات البقاء على الحياة. إلى جانب النقص الحاد في الأدوية لأصحاب الأمراض المزمنة، الذين يفقدون حياتهم من دون أن يشعر بهم أحد،
هذا عدا عن مرضى السرطان الذين يعانون من دون علاج. والأمر الذي لا يقل خطورة عما سبق، هو أن الغزيين في غالبيتهم يعيشون حالة الصدمة، وتتراكم لديهم الأمراض النفسية والاضطرابات النفسية والاكتئاب.
وبحسب عدد من الأبحاث التي أجريت في غزة، فإن خطر الانفصال الأسري زاد بشكل كبير في الأشهر الماضية، وتفاقم بسبب جولات متعددة من النزوح والاعتقالات وأوامر الإخلاء الإسرائيلية والوفيات. ومن الأمثلة على ذلك، العثور على أطفال يعيشون بمفردهم في المستشفيات.
ووفقاً لليونيسف، يُقدّر أن حوالى 17,000 طفل في غزة غير مصحوبين بذويهم أو منفصلين عن والديهم، وقد تكون الأرقام الفعلية أعلى. وبحسب الأونروا، فإن الحرب والنزوح القسري يقفان عائقاً أمام إعادة لمّ شمل الأطفال مع عائلاتهم.
وفيما أصبحت مهمة المفوض العام للأونروا نشر المناشدات الإنسانية بكلمات شعرية وتكرار ترديدها، وقوله “إن غزة لم تعد مكاناً للأطفال بعد الآن”، وإنهم “أول ضحايا هذه الحرب التي لا ترحم”، “ولا يمكننا السماح بأن يصبح هذا الوضع المروع هو المعيار الجديد”، يمكن القول إن هذا “المعيار” هو السائد منذ بداية الحرب، في ظل مسلسل قتل الأطفال،
وتصريحات المفوضية من دون أي تأثير ولا تترك أي أثر لدى صناع القرار الدولي. لم تتخذ الأونروا ووكالات الأمم المتحدة أي خطوات وإجراءات احتجاجية بسيطة مثل تعليق العمل من جميع العاملين في المنظمات الدولية.
تبدو الظروف الحالية مناسبة لنتنياهو، فهو مفتون باستطلاعات الرأي التي منحته غالبية شعبية إضافية مريحة، وظروف تنافسية مع خصومه. لم يتم التوصل الى وقف إطلاق النار والى صفقة تبادل الأسرى، وليس هناك تصعيد إقليمي، فيما أميركا بدأت تنشغل يوماً تلو الآخر بانتخاباتها ومشكلاتها الداخلية. لكن، المذبحة مستمرة من دون أي أفق للضغط على إسرائيل.