فيلم "فوفعة" لإبراهيم اللطيف: إعصار الثورة التونسية بين الاستعارة والمجاز !

في "فوفعة" لم يسبح المخرج إبراهيم اللطيف هذه المرّة في فلك الكوميديا

التي عوّد بها جمهوره بل قدّم فيلما تراجيديا تلتقي فيه المأساة والملهاة لتصوير تونس الآن وهنا ! في خامس أفلامه الروائية الطويلة، اختار المخرج إبراهيم اللطيف أن يستنطق الثورة التونسية، وما جاء بعدها من مخاض عسير ومن ضبابية في الرؤية خلفت أكثر من زوبعة ... فكانت "فوفعة" يصعب التحكم فيها أو حتّى الحكم عليها !

بعد أن كان مرشحا للمسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة 34 لأيام قرطاج السينمائية الملغاة، يشارك في بطولة "فوفعة" كلّ من فاطمة بن سعيدان ومحمد حسين قريع وريم بن مسعود وأميرة درويش والشاذلي العرفاوي وربيعة التليلي وخلود الجليدي وحسام الساحلي وتوفيق العايب وعاطف بوزيد وسندة الجبالي مع ضيوف الشرف فاطمة ناصر وبية الزردي ونرمين صفر.

ورطة بسبب خصلة الشعر البيضاء !

لأنّ "الأرواح أكر مقسومة، وكل نفس تحنّ إلى نصفها الآخر"، فقد كان اللقاء بين الباحثين والباحثات عن نصفهم الثاني في منزل "حسيبة" (فاطمة بن سعيدان) وشقيقها حسيب (توفيق العايب). ومن سوء حظّهم أنّ هذا الميعاد تزامن مع "تنبيه بالإعصار" ليعيش الضيوف في الداخل على إيقاع عاصفة هوجاء في الخارج. هي ببساطة قصة سيّدة حوّلت منزلها إلى دار ضيافة من أجل التعارف بين الرجال والنساء ، بهدف جمع المال لتسديد ديونها المتراكمة بسبب شقيقها. يتوافد الضيوف على الموعد وعلى حفل التعارف ويقدّم كل واحد منهم نفسه كما يحلو له... لكن سرعان ما تسقط نهم الأقنعة وتفتضح حقيقتهم التي حاولوا إخفائها بعد أن وجدوا أنفسهم مورطين في قضية خطيرة... لقد جنت عليهم الصدفة بالوجود في زمان سيء وفي مكان خاطئ !
ربما كان السبب في هذا الكابوس هو خصلة الشعر البيضاء التي جاءت من أجلها النساء إلى المنزل المشؤوم على أمل العثور على زوج قبل أن يفوت قطار العمر! وقد برعت الممثلة ريم بن مسعود في أداء هذا الدور بكثير من التأثير والإقناع في دور مختلف وشخصية تشد الانتباه.
ما بين التلميح والتصريح، اهتمت كاميرا المخرج إبراهيم اللطيف بقضايا المرأة على تعدد نماذجها ومعاناتها على غرار التضحية من أجل العائلة ومواجهة الأحكام المسبقة ومصارعة زحف العمر ... من صورة المرأة إلى صورة الوطن، قد يجوز تشبيه تونس بالبحر المتلاطم موجه، والعنيف في مدّه وجزره، والعميق في قراره... هي تونس التي يتحدث عنها فيلم "فوفعة" بكل آلامها وآمالها، خيباتها ونجاحاتها، انكساراتها وصمودها...

توظيف و تكريم لمسرحية "غسّالة النوادر"!

يقال إنّ الأعاصير تشبه مزاج المرأة، وإنّ خبراء الأرصاد الجوية، أطلقوا في فترة الحرب العالمية الثانية أسماء زوجاتهم وبناتهم على الأعاصير.. وفي فيلم "فوفعة" تم إطلاق اسم "بيّة" على الإعصار الذي حلّ بتونس فخرجت منه سالمة، وخرج منها مستسلما !
عن تونس في زمن الإعصار وما بعده، والذي قد يكون مجازا وقد يكون عابرا في الزمن وفي الجغرافيا، يحدّث فيلم "فوفعة" جمهوره عن نموذج الإعلام الذي يتلقى التعليمات وينفّذ الأوامر، حتى وإن حاول قول الحقيقة فكثيرا ما تعيده "السماعات" إلى مربع الطاعة. وقد جسّد الممثل محمد قريع دور الإعلامي بكثير من الإقناع والطرافة في برهنة على أنه فنان قادر على التجديد والتجدد.
في بادرة حسنة وبطريقة طريفة، قدّم فيلم "فوفعة" تحية تكريم لمسرحية "غسّالة النوادر" التي كتبها "الخماسي الذهبي" فاضل الجزيري وفاضل الجعايبي ومحمد إدريس وجليلة بكار وحبيب المسروقي. وقد أعاد المسرحي القدير وأحد أبطال الفيلم الشاذلي العرفاوي تجسيد مقطع من "غسالة النوادر " في دلالة على التقاطع مع" فوفعة". فما بين الزمنين، يكرر التاريخ نفسه وكثيرا ما تنحرف الدول من مسار الثورات إلى طريق الاستبداد.
من النقاط المضيئة في فيلم "فوفعة" هي الموسيقى الأصلية التي جاءت بإمضاء الثنائي الموسيقي نسرين ووائل جابر، في أول تجربة سينمائية لهما. وقد كان الإيقاع الموسيقى في الفيلم رجع صدى لعوالم الشخصيات في سكونها وفي صخبها، وبعدا ثالثا للأحداث في تصاعدها وتوترها وانفراجها...

رمزية مكثفة... وطريفة !

يبدو أنه مهما حاول الفنان الاستنجاد بالخيال لتقديم أعمال يؤكد فيها "أنّ كل تشابه بين الشخصيات والأحداث هو من محض الصدفة "، يبقى هذا المبدع وفي أي مجال ابن بيئته التي يتأثر بها وتؤثر فيه... وبالتالي يبدو أنّ المخرج السينمائي إبراهيم اللطيف لم يعثر بعد - شأنه شأن كل التونسيين - على الاستقرار والحال أنّ العواصف والأنواء لا تهدأ في تونس ما بعد ديسمبر 2010.
تحضر الرمزية بقوة في فيلم "فوفعة" لتفتح باب التأويل أمام عيون المشاهدين كل حسب رؤاه وعلى هواه... فمنذ بداية الفيلم إلى نهايته، وأبطال الفيلم وكذلك الجمهور في انتظار أن تنضج "الملوخية" وتقّر زيتها، وقد يحيل توظيف دلالة هذه الأكلة التونسية الأطول في ساعات طبخها إلى أنّ الثورة التونسية قد تأتي ثمارها على مهل ! كما قد تشير قصة حكاية قلادة البايات التي تتعرض للسرقة ولكن في النهاية يتضح أنها مزوّرة إلى توصيف ما للثورة التونسية!
في مشهد طريف، كان فيه للممثل حسام الساحلي ظهور مختلف وأداء مميز في شخصية مغايرة يحيل الفيلم إلى أنه قد يحدث أن تولد الثورات والتحولات الجذرية على يد عابر سبيل أو ضيف صدفة وجد في الفراغ من حوله فرصة للتموقع.
طبعا لم يغب رمز كرسي السلطة عن شاشة "فوفعة" ليكون منه المنطلق وإليه العودة في بنية دائرية للفيلم... هذا الكرسي الذي يتمسك بالأرض وبالعرش والذي استعصى عن التزحزح أو التخلي... لا يلبث أن يعصف به الإعصار فيسقطه في نهاية المطاف!
يستحق فيلم "فوفعة" المشاهدة واقتطاع تذكرة سينما ليس بنّية مسبقة في الضحك بل بعقلية التمعن بعيون السخرية المريرة في مرآة وطننا وأنفسنا بحثا عن بياض الياسمين وعبقه وسط فوضى خلاّقة ... وسط "فوفعة" !

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115