لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء" كلمات قالها الزعيم جمال عبد الناصر في الدعوة إلى التمسك بالحرية وبالكرامة من أجل البناء. وفي مسلسل "رڤّوج" كان البناء المتين هو سرّ الصنعة وسرّ الخلطة السحرية في العزف على وتر الفنتازيا والواقعية العجائبية والكوميديا...
على اختلافها وأحيانا غرابتها، شدّت جمهورية "رڤّوج" متفرجيها إليها وكأنها مملكة مصغّرة عن آمالهم وآلامهم، أحلامهم وهواجسهم، أخلاقهم وانحطاطهم، إنسانياتهم وحيوانيتهم... في مسلسل "رڤّوج" أكثر من واجهة مفتوحة أو هي "مرمة" (حضيرة بناء) أسهل ما فيها البدايات وأصعب ما فيها النهايات!
تتعدد أوجه "رڤّوج" ما بين القبح والجمال، وتتأرجح شخصياتها ما بين الخير والشر، فتتولد القضايا في اطراد لا يفسد للود قضية.. ومن القضايا التي منحتها كاميرا المخرج عبد الحميد بوشناق حيّزا مهما من الوقت والضوء هي معاناة عمّال البناء في مجتمع يتنكّر لأدوار"بناة العمارة" في بناء الحضارة في كل العصور.
لولا سواعد هؤلاء العمّال لما شيّدت المنازل والقصور والمقرّات، ولولا عرق جبينهم لما بنيت الجسور والعمارات... لكنهم في المقابل لا يجنون سوى القليل من الأجرة والزهيد من الاعتراف !
تحت سياط الشمس الحارقة أو تحت لسعات البرد القارسة وفي كل الفصول، يفني عمّال البناء العمر والصحة في التشييد والتعمير في يوميات تختلط فيها الدمعة بالابتسامة والأغنية بالتنهيدة في صبر على مشقة المهنة وشقاء العيش.
في "ڤروج" ومن خلال شخصية "عبد الله" التي أداها بكثير من الحرفة والحنكة المخرج والممثل الشاذلي العرفاوي، تتجسّد معاناة عمّال البناء بمنتهى الوضوح والتأثير والطموح في تغيير واقع مهنة حقوقها مهضومة. في لباسه وكلامه وطريقة تفكيره وتحليله للأشياء من حوله، كان أداء الشاذلي العرفاوي وفيا لأبعاد الشخصية التي التبست بمهنتها حتى أضحت الحياة في نظرها كحضيرة البناء في مراوحتها بين الصعود والهبوط .... "عبد الله" في المسلسل شأنه شأن الآلاف من عمال البناء في تونس الذين يحلمون بحياة كريمة تقيهم الخوف من المستقبل المجهول وتسندهم عندما يحدث لهم عارض أو طارئ صحي أو حادثة سقوط أليمة... إنهم لا يطالبون سوى بقوانين تضمن لهم التأمين الصحي ومستوى عيش محترم حتى لا يكون مصيرهم ومصير عائلاتهم في مهب الريح !
إنّ "خدّامة المرمة" في تونس اليوم خارج دائرة الاهتمام الحكومي وبعيدا عن اهتمامات النقابات العمالية... وحدهم يصارعون الحياة بسواعد أصبحت منهكة يوما بعد يوم وبكفوف أصبحت خشنة وملمسها قاسيا كقسوة الدنيا عليهم... هي ببساطة ملحمة مهنة تعمّر الوجود وتترك أثر الإنسان في كل مكان وزمان لكن أصحابها تناستهم الحكومات ولم يبق لهم سوى الاغنيات والحكايات المتناثر صداها ما بين أرض وسماء في عملية البناء!