.فبعد سنوات من الهدوء في المجالين السياسي والفكري رجعت هذه القضية إلى النقاش العام لتصبح محل جدل كبير خاصة في البلدان الإفريقية جنوب الصحراء وبعض البلدان الأخرى التي عرفت تعبئة سياسية كبيرة من قبل منظمات المجتمع المدني .فقد أكدت هذه المنظمات والأحزاب السياسية أن الحقبة الاستعمارية كانت فترة نهب واستغلال جشع من الإمبراطوريات الاستعمارية لمستعمراتها على مدى أكثر من قرن من الزمن منذ بداية التوسع الاستعماري على نطاق واسع في منتصف القرن التاسع عشر إلى خمسينات القرن العشرين وبداية الحركات الوطنية ووصول هذه البلدان إلى الاستقلال .وقد ذهبت بعض القراءات السياسية الراديكالية الى أن الهيمنة الاستعمارية لم تنته مع الاستقلال بل دخلت في مرحلة جديدة من النهب والاستغلال من خلال ما أطلق عليه البعض بالاستعمار غير المباشر .
وقد أشارت هذه النقاشات وحركات المجتمع المدني إلى أن البلدان النامية تعاني إلى حد اليوم من الانعكاسات الطويلة المدى للفترة الاستعمارية .فالنهب الاستعماري والاستغلال ساهم في تفقير المستعمرات وفي ضرب الشروط التاريخية لدخولها في النمو الاقتصادي والخروج من الفقر والتبعية وبالتالي فإن الانعكاسات الاقتصادية للحقبة الاستعمارية ساهمت بطريقة كبيرة في واقع التهميش والتخلف الذي تعيشه هذه البلدان اليوم والتي لم تتمكن من القطع مع هذا الإرث التاريخي الثقيل بالرغم من كل السياسات والبرامج التنموية التي قامت بتطبيقها منذ الاستقلال وبناء الدولة الوطنية .
كانت هذه القراءات والتحاليل وراء التعبئة الكبيرة من قبل منظمات المجتمع المدني وخاصة الشباب منذ سنوات وذلك في عديد البلدان وبصفة خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء لتصبح القوى الاستعمارية محل نقد شديد ورفض.وقد عرفت عديد البلدان مظاهرات وحملات ضد هذه القوى وطالبت هذه المنظمات القوى الاستعمارية القيام بتعويضات مالية كبيرة لمساعدة البلدان النامية للخروج من أزماتها الاقتصادية والمشاكل المتراكمة .كما طالبت هذه المنظمات بعودة الآثار التاريخية التي تم نهبها خلال الفترة الاستعمارية والمعروضة في المتاحف الأوروبية .
وقد دفع حجم النقد والتعبئة في المستعمرات السابقة دول المركز إلى التفاعل والخروج من الصمت الذي فرضته على هذه القضايا لسنوات طويلة .فتكونت اللجان المشتركة بين المثقفين والباحثين وحتى السياسيين والحكومات لدراسة الإرث الاستعماري الثقيل ومحاولة إيجاد الحلول للخروج من المرارة والسخط السائد عند الأجيال الجديدة من الشباب . للتعبير عن حسن نواياها قامت بعض البلدان بإرجاع الآثار التاريخية إلى البلدان التي سرقت منها .
إلا أن النقاش حول هذا الإرث الاستعماري بقي عاما ولم يتجاوز في عديد الأحيان الخطاب السياسي المباشر.وتبرز هذه السمة في قراءة الإرث الاقتصادي والمالي للاستعمار المباشر وقد عرف هذا النقاش في السنوات الأخيرة تطورا كبيرا حيث قام الاقتصاديون بتحسين منهجياتهم وطرق عملهم من اجل تقديم إحصائيات دقيقة حول العبء المالي والاقتصادي للاستعمار .
ولعل النتيجة المهمة التي يمكن ان نصل اليها من هذه القراءات الجديدة حول البعد الاقتصادي والمالي للاستعمار أنها ساهمت في زعزعة وتراجع قناعات قوية حول هذه المسالة التي هيمنت على المجال العلمي لنصف قرن من الزمن على الأقل .
- تطور الخطاب الاقتصادي حول الاستعمار
لم يكن البعد الاقتصادي والمالي للمستعمرات مهما عند انطلاق مشروع التوسع الاستعماري مع ظهور النظام الرأسمالي في أوروبا في القرن التاسع عشر .وقد لعب عاملان مهمان في تطور المغامرة الاستعمارية وتوسع البلدان الرأسمالية خارج حدودها لتكوين إمبراطوريات كبرى في البلدان التابعة.ويكمن العامل الأول في الجانب "الاخلاقوي" الذي سعت النخب الفكرية والدينية على إضفائه على التوسع الاستعماري من خلال تحاليل ومقولة "المهمة الحضارية" أو (mission civilisatrice) التي تقوم بها البلدان المتقدمة والتي دخلت عالم الحداثة والحضارة في البلدان التي بقيت سجينة العوالم الماقبل رأسمالية والتي يهيمن عليها العنف والاستبداد والخرافة .وقد لقي هذا الادعاء رواجا كبيرا عند عديد المفكرين والنخب الدينية في القرن التاسع عشر والتي دافعت بطريقة كبيرة على الدور الحضاري والإنساني للحضور الاستعماري الا أن واقع الاضطهاد والقمع الذي تعرضت له الشعوب المستعمرة من قبل الجيوش والترسانة الاستعمارية أثبتت زيف هذه المقولات والادعاءات .
أما العامل الثاني الذي ساهم في تطور التوسع الاستعماري فيهم الجانب السياسي والمنافسة بين البلدان الرأسمالية الصاعدة في أوروبا وبصفة خاصة بريطانيا وفرنسا لبناء إمبراطوريات كبيرة لبسط هيمنتها على العالم .وأصبح التوسع الاستعماري وبسط هيمنة البلدان الرأسمالية على بقاع كبيرة من العالم في مختلف القارات احد عناصر القوة لهذه الإمبراطوريات وشكلت بالتالي ذريعة وحجة هامة دفعت الدول الى الاستثمار ووضع إمكانيات ضخمة للسيطرة على العالم .
إذن بقي العامل الاقتصادي والمالي هامشيا في إضفاء الشرعية على المشروع الاستعماري .وقد أكد هذا على تمشي العديد من الاقتصاديين ومن ضمنهم ليون قالراس(léo wolras) وكليمن جوقلار (clément juglar) اللذين لم يكونا مبالين بما فيه الكفاية للتطور الاستعماري ليعطوا الأهمية للتحول الاقتصادي والصناعي الرأسمالي في البلدان الرأسمالية وبصفة خاصة في تطور الأسواق الداخلية .
وأشار بعض الاقتصاديين إلى ان دور المستعمرات يمكن ان يقتصر على توفير اسواق خارجية للسلع التي تزيد عن حاجة البلدان الرأسمالية .
ساهمت هذه التحاليل والقراءات الاولى لانعكاسات الاستعمار على المستعمرات والدور الهامشي الذي لعبته في التطور الرأسمالي لبلدان المركز في بناء صناعة صلبة وتوافق تاريخي بين الاقتصاديين ول هذه المسائل لاكثر من قرن من الزمن .ولعل اخر كتاب مهم صدر في فرنسا في هذا المجال كان للكاتب والباحث جاك مارساي (jacques Marseille) في كتاب كان له صدى كبير في فرنسا سنة 1984 تحت عنوان "الإمبراطورية الاستعمارية والرأسمالية الفرنسية – حكاية طلاق " او (Empire colonial et capitalisme français,histoire d’un divorce) وقد اكد هذا الكتاب الفرضية التي بنى عليها الاقتصاديون الفرنسيين لأكثر من قرن من الزمن حول هامشية الجانب الاقتصادي في المشروع الاستعماري وضعف الارباح المباشرة لبلدان المركز .وقد أضاف الكاتب من خلال دراسته التي بقيت لعقود طويلة مرجعا حول الجانب الاقتصادي للإمبراطورية الاستعمارية وبعيدة عن النقد لأن التوسع الاستعماري شكل عبئا ماليا واقتصاديا لدول المركز .
وقد لجأ عديد السياسيين لهذه الدراسات والتحاليل للدعوة للخروج من الفضاء الاستعماري وإعطاء الأولية لتطوير بلدان المركز وتحديث اقتصادياتها .
وقد قام اقتصاديو العالم الثالث والذين طوروا نظرية أو مدرسة التبعية (école de la dépendance) وعلى رأسهم الصديق المرحوم سمير أمين بنقد هذه القراءة والنظرية .وقد أكدوا على ان السيطرة الاستعمارية كانت وراء تفقير واستغلال وتشويه اقتصاديات البلدان المستعمرة .وساهم الاستعمار في بناء علاقات التبعية التي تعاني منها البلدان النامية ليومنا هذا .إلا ان هذه النظرة الندية لم تنجح في دحر النظرة السائدة وتراجع هيمنتها .
لكن هذه النظرة تشهد اليوم تراجعا كبيرا مع تصاعد النقد للتجربة الاستعمارية وظهور دراسات وقراءات جديدة للإرث الاقتصادي للاستعمار تؤكد أن المستعمرات لعبت دورا كبيرا في رخاء وتطور البلدان الرأسمالية المتقدمة .
- في ديناميكية التاريخ الاقتصادي للاستعمار
عرف المجال العلمي والبحث ظهور دراسات جديدة أعادت تقييم الإرث الاستعماري في المجال المالي والاقتصادي.وآخر هذه البحوث هي التي أصدرها أستاذ الاقتصاد الفرنسي (دونيس كونيو Denis cogneau) منذ ايام في كتاب بعنوان "إمبراطورية بمثن زهيد التاريخ والاقتصاد السياسي لاستعمار الفرنسي القرن 19-21" او (un bon marché histoire et économie politique de la colorisation française ,XIXe-XXIe siècle "
عن دار النشر الباريسية سوي (seuil) .
إن القراءة المتأنية والرقيقة لجملة هذه الدراسات والإصدارات تمكننا من الوصول الى قراءة متمعنة ودقيقة لديناميكية الاقتصاد الاستعماري في المستعمرات .
وفي هذا المجال يمكن لنا ان نشير الى ان التغلغل الاستعماري في اقتصادات المستعمرات عرف ثلاث مراحل أساسية ولن يصل الاستغلال والنهب الى مستويات كبيرة الا في المرحلة الأخيرة .
تمتد المرحلة الاولى من بداية التوسع الاستعماري في منتصف القرن التاسع عشر الى بداية القرن العشرين حيث كان الهاجس الأساسي لبناء الإمبراطوريات الاستعمارية .ولئن كان ذلك هامشيا الا ان هذه الفترة لم تخل من تواجد الشركات الاستعمارية الكبرى في المستعمرات للبحث عن المواد الأولية وتصديرها لمصانعها في المركز لتحويلها .ويمكن الاشارة الى بعض الأمثلة في هذه المجال وضمنها المطاط في آسيا لصناعة السيارات واطاراتها المطاطية والمواد الأولية في السينغال لصناعة الزيوت النباتية .
اما المرحلة الثانية فتتطابق مع بدايات العولمة في بداية القرن العشرين حيث سيعرف الجانب الاقتصادي تطورا في المشروع الاستعماري .الا ان هذا الاهتمام بقي محدودا كما تشير الى ذلك الارقام حيث لم تتجاوز الاستثمارات في المستعمرات %10 من مجموع الاستثمارات الفرنسية في الخارج و%15 للاستثمارات الانقليزية .
الا ان التحول الأساسي في المشروع الاستعماري وصعود الجانب الاقتصادي صحبه هاجس اساسي في مشروع الهيمنة سيحصل اثر الازمة العالمية لسنوات 1929 و1930.وستكون هذه الازمة وراء هزة عنيفة للاقتصاد العالمي الذي كان على حافة الانهيار .وستدفع هذه الازمة والمخاطر الكبرى التي احاطت بالاقتصاد العالمي القوى الرأسمالية الى التركيز على إمبراطورياتها الاستعمارية وبناء نمط اقتصادي جديد يرتكز على استغلال المستعمرات وتنظيم تبعيتها نحو بلدان المركز .وسيتواصل هذا النظام الاقتصادي الكولونيالي الى نهاية الخمسينات واستقلال البلدان المستعمرة حيث ستحاول الدول الوطنية الخروج من هذا النظام الاقتصادي لدعم الاستقلال السياسي بنظام اقتصادي يتجه لتلبية الحاجيات الاساسية لهذه البلدان .
وتشير عدد الأرقام والمعطيات الى هيكلة النظام الاقتصادي الكولونيالي منذ بداية الثلاثينات حيث اصبح ثلث التجارة الخارجية الفرنسية يتم مع مستعمراتها .كما ارتفعت مصاريف الدولة الفرنسية في مستعمراتها من %0.5 في الناتج الخام سنة 1830 الى %3 سنة 1945.ولئن شكل الجانب الأمني والعسكري %30 من هذه المصاريف الا ان جانبا منها تم توجيهه للبنية التحتية من بناء موانئ وطرق وشبكات سكك حديدية لتسهيل الارتباط التجاري بين المركز والمستعمرات كما تشير الأرقام ان الاصول التي تمتلكها الدوائر الاستعمارية وصلت الى %10.
ولعل الجانب المهم الذي يؤكده المؤرخون أن هذه الهيمنة الاستعمارية لم تكن باهضة الثمن للبلدان الاستعمارية التي تمكنت من وضع نظام جبائي صارم في مستعمراتها مكنها من تغطية مصاريفها .وقد اشارت الارقام الى ان المداخيل الجبائية عرفت تطورا كبيرا في المستعمرات الفرنسية حيث مرت من %10 الناتج الخام سنة 1920 الى %20 سنة 1950.
عرفت الدراسات حول الحقبة لاستعمارية تطورا كبيرا في السنوات الاخيرة التي صاحبت الحراك السياسي للاجيال الشبابية الجديدة والتي تطالب باعادة النظر في الارث التاريخي للاستعمار وكل النهب والاستغلال الذي عانت منه المستعمرات .
وفي رأيي فإن سبل تجاوز هذا الإرث يكون من خلال دعم المستعمرات السابقة وتمكينها من الظروف الاقتصادية والمالية للخروج من ازماتها وبناء تجربة سياسية واقتصادية جديدة .