قهوة الأحد: الأزمات المالية : عودة على بدء

كان الاعتقاد راسخا أن الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي تم إدخالها اثر الأزمة المالية لسنوات 2008 و2009 ستكون كافية للحد من لهفة المضاربين في الأسواق المالية العالمية

وركضهم وراء الربح السريع .فقد أدخلت القوانين الجديدة والقواعد التي تم تطبيقها في المعاملات المالية والبنكية في اغلب بلدان العالم الكثير من الضوابط لمنع المخاطرة وإيقاف نزعة المضاربين نحو المغامرة غير عابئين بانعكاساتها المالية والسياسية والاجتماعية .

إن الأزمة المصرفية الحالية التي انطلقت منذ ايام في الولايات المتحدة الأمريكية مع إفلاس مصرف سيليكون فالي بنك (sillicon valley Bank) ثم امتداداها الى عديد البنوك الأخرى في أمريكا ثم في أوروبا وخاصة في سويسرا مع اعلان إفلاس احد أهم البنوك السويسرية وهو "الكريدي سويس" وشراؤه من طرف مصرف اتحاد البنوك السويسرية وجاء ذلك ليثبت هشاشة هذه القواعد وقدرة المضاربين على تجاوزها .
وجاءت هذه الأزمة المالية لتضيف مصدرا جديدا للقلق والخوف على استقرار العالم وقدرته على الصمود أمام الأزمات الكبرى التي تهزه في الفترة الأخيرة كالأزمة المناخية وتراجع السلم مع الحرب الطاحنة في أوكرانيا والمخاوف جراء المخاطر الصحية .وهذه التحديات تؤكد من جديد هشاشة النظام العالمي وضرورة العمل على بناء نظام جديد يضع نصب عينيه الأمن والسلم والتنمية والانفتاح على الهامش .
لكن كيف انطلقت هذه الأزمة ؟
- انطلاق الأزمة المالية الجديدة
انطلقت هذه الأزمة المالية الجديدة يوم 8 مارس عندما أعلن "سيليكون فالي بنك" والذي يعتبر احد أهم البنوك الممولة للمؤسسات الصغرى وخاصة في المجال التكنولوجي عن عزمه بيع جملة من الأصول والأدوات المالية الأخرى للترفيع في رأسماله .
وقد أثار هذا الإعلان الكثير من المخاوف عند زبائن البنك الذين اعتبروه بمثابة إنذار بوجود أزمة مالية خانقة قد لا تسمح للبنك بتمكينهم من سحب ودائعهم .وقد خلقت هذه التطورات حالة من الذعر والفزع دفعت الزبائن إلى الهرولة لسحب مدخراتهم وودائعهم مما أدى بالبنك الى الإعلان عن إفلاسه يوم الجمعة 10 مارس 2023.وشكل هذا الإفلاس ثاني اكبر أزمة مالية بعد انهيار "واشنطن ميتيال" في 2008.
ودخل المصرف تحت تصرف إدارة الحماية المالية المختصة في هذه الأزمات المالية .
وبالرغم من التدخل السريع للفدرالي الأمريكي الذي أعلن عن تخصيص 25 مليار دولار لحماية النظام المالي وضمان مبلغ قدره 250.000 الف دولار لكل حرفاء البنك الذين يملكون ودائع الا أن هذه الازمة وككل الأزمات السابقة ستكون وراء انطلاق كرة الثلج حيث ستنعكس ارتداداتها على العديد من البنوك الهشة .
فبعد أيام قليلة من إعلان افلاس "سيليكون فالي بنك" ستعلق عديد البنوك الأخرى المتوسطة الحجم إفلاسها ومن ضمنها سينياتور بنك (Signature Bank) وسليقيرقايت(Silvergate) وفيراست روبيلك (First Republic) .
ولن تقف هذه الارتدادات وانعكاسات الأزمة المالية على الولايات المتحدة الأمريكية بل ستمتد الى مناطق اخرى من العالم وخاصة في اوروبا حيث اعلن ثاني اكبر بنك سويسري ،الكريدي سويس ، عن إفلاسه بعد رفض البنك الوطني السعودي والذي يملك قرابة %15 المساهمة في الترفيع من رأسمال البنك لحمايته .
ولئن كانت البنوك الأمريكية التي انطلقت منها هذه الأزمة الجديدة من الصنف المتوسط الا ان الكريدي سويس هو من البنوك الهيكلية والتي يطلق عليها باللغة الانقليزية (Too big to fail) والتي يمكن ان يقود إفلاسها الى أزمة عالمية كبيرة .وفي هذا المجال يمكن ان نشير إلى أن البنك السويسري يشغل 45.000 موظف حول العالم وكان يستثمر اصولا مالية تقدر ب1330 مليار اورو في نهاية سنة 2022 وهذا للتأكيد على أهمية هذا البنك في النظام المالي العالمي والمخاطر التي يمكن جان يقود لها افلاسها بالرغم من دخوله تحت سيطرة البنك السويسري الأكبر اي "اينيون دي بنك سويس" بدعم من البنك المركزي السويسري (union des banques suisses) .
مع انطلاق هذه الازمات المصرفية سارعت البنوك المركزية الى التدخل لإيقاف العدوى وتوفير السيولة الضرورية لاستجابة لمطالب الزئابن باسترجاع ودائعهم .وفي نفس الوقت عبرت كبرى البنوك الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية عن استعدادها للمساهمة في حماية ودعم البنوك الصغرى والمتوسطة وهي بنك أوف أمريكا (Bank of America) و ج ب مورغا (J.P Morgan)و والس فارغو (wells Fargo) وسيتي قروب (city Group) .
وبالرغم من هذه التدخلات التي بقيت محدود من الحكومات والبنوك المركزية فإن المخاوف لازالت قائمة حول مستقبل هذه الأزمة وإمكانية تطورها في الأسابيع القادمة خاصة وان الأسباب التي كانت وراء انطلاقها لازالت قائمة .
- في الأسباب المباشرة لهذه الازمة
بدأت القراءات والتحاليل الأولية لفهم أسباب هذه الأزمة .وفي رأيي هذه الأزمة المالية نتيجة مباشرة لنهاية الطفرة المالية التي عرفها الاقتصاد العالمي منذ أشهر لمحاربة التضخم.فقد عملت البنوك المركزية في اغلب بلدان العالم على التخفيض في نسب الفائدة المديرية خلال أزمة الكوفيد للتخفيض من حدة الانكماش الاقتصادي والمساهمة في تنشيط الاقتصاد.وكانت نسب الفائدة في مستوى الصفر في اغلب الاقتصادات الكبرى مما خلق طفرة مالية كبرى ساهمت بصفة خاصة في دفع الاستثمارات المالية على حساب الاستثمار في الاقتصاد المنتج (économie réelle) وقد اشرنا في عديد المساهمات الى خطورة هذه الطفرة المالية والتي كانت وراء ظهور فقاعة مالية (bulle financière ) تهدد بالانفجار في كل لحظة .
إلا أن ظهور التضخم وارتفاعه الكبير في الأشهر الأخيرة دفع البنوك المركزية في اغلب البلدان المتقدمة إلى تغيير جذري في سياساتها النقدية والخروج من سياساتها التوسعية للانتقال الى سياسات متشددة من خلال الترفيع الكبير في نسب الفائدة المديرية.وسيكون الفدرالي الأمريكي في طليعة هذه التحولات حيث سيقوم بأكبر ارتفاع في نسب الفائدة التي ستمر من %0 الى %4.75 في أشهر قليلة .وسيكون لهذا التغيير في السياسة النقدية تأثير كبير على الاقتصاد حيث ستنتقل اغلب البلدان المتقدمة من مرحلة الطفرة نقدية إلى مرحلة ندرة .
وستكون لهذا التغيير انعكاسات كبرى على عديد البنوك والمصارف ومن ضمنها مصرف "سيليكون فالي بنك".وسقد تأثر هذا البنك من عاملين مهمين أولهما انه استثمر اغلب ودائعه القادمة من الشركات التكنولوجية في أصول طويلة المدى.إلا أن هذه الشركات وبعد ارتفاع أسهمها في فترة الجائحة عرفت الكثير من التراجع منذ 2021 مما اضطرها الى الرجوع الى البنك لسحب جزء من ودائعها لتغطية حاجياتها الملحة .الا ان مصرف السيليكون فالي لم يكن يتوقع هذا التحول ولم يكن قادرا بالتالي على احترام التزاماته مما خلق أزمة كبيرة .
أما العنصر الثاني والذي ساهم في تعميق أزمة مصرف السيليكون فالي فيهم الاستثمارات التي قام بها البنك وخاصة تراجع قيمة السندات مع ارتفاع نسب الفائدة .
- في مخاطر الأزمات المالية
نجحت البنوك المركزية إلى حد اليوم في احتواء مخاطر هذه الأزمة وتطويق مخاطرها إلا أن الأسباب التي كانت وراء اندلاعها لازالت قائمة الى حدّ الآن مما ينذر بإمكانية اندلاعها من جديد .
وهنا لابد من التوقف عند عاملين أساسيين .العامل الأول يهم السياسات النقدية والتناقض الواضح بين هدف محاربة التضخم والاستقرار المالي .وسيكون لهذا التناقض تأثير كبير على السياسات النقدية حيث ان مواصلة سياسة التشدد لمحاربة التضخم يمكن ان تزيد من هشاشة القطاع المصرفي والبنكي .
أما العامل الثاني والذي قد يهدد القطاع البنكي فيهم قواعد الحيطة التي تم ضبطها اثر الأزمة المالية لسنوات 2008 و2009 والتي تعرف بقوانين دود .فرانك (Dodd-Frank) على اسمي أعضاء المجلس واللذين قاما بإعداد هذه القوانين لكبح جشع المضاربين.
وقد بدأت عملية التراجع عن هذه القوانين خاصة في الولايات المتحدة من خلال لجنة.وضعها الرئيس السابق دونالد ترامب وكان من بين أعضائها جيروم باول (Gerome Powell) الرئيس الحالي للفدرالي الأمريكي مما اعطى أكثر مرونة للبنوك المتوسطة ومن ضمنها سيليكون قالي بنك والبنوك الأخرى التي تعيش نفس الصعوبات .
تشكل هذه الأزمة المالية إنذار على هشاشة المؤسسات المالية والمصرفية بالرغم من القوانين التي حاولت الحد من جشع ونهم المضاربين .ولئن نجحت إلى حدّ الآن محاولات تطويق هذه الأزمة إلا أن تطورها سيزيد من عمق جراح الاقتصاد العالمي ومصاعبه والتي من شانها أن تؤثر على بلادنا .

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115