ومن أهم أسباب هذا الوضع الاستراتيجى نجد تراجع هيمنة الأقطاب الكبرى على العالم وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والتي سيطرت على نظام القطب الواحد بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1989.وقد سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية على عالم أحادي جديد طيلة التسعينات وبداية العشرية الأولى للقرن العشرين .إلا أن الأزمات المتتالية وخاصة الأزمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 أثبتت هشاشة القطب الواحد كاطار استراتيجي لإدارة العالم .
- بروز العالم المتعدد الاقطاب
لقد فتحت هذه الأزمات المالية والاقتصادية والمناخية المجال لعالم جديد متعدد الأقطاب يتكون من الأقطاب التقليدية الموروثة من الحرب العالمية الثانية وهي الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا وروسيا والتي ولئن تراجع تأثيرها مع انهيار المعسكر الاشتراكي في التسعينات الا انها تمكنت من استرجاع جزء من تأثيرها خاصة في المجال العسكري والمجالين الطاقي والغذائي .
وإلى جانب هذه القوى التقليدية تشكل العالم المتعدد الأقطاب من عدد كبير من بلدان العالم الثالث والتي تمكنت في فترة قصيرة من التحول من بلدان الى تابعة الى قوى اقتصادية صاعدة تنافس هذه البلدان الرأسمالية التقليدية .ومن ضمن هذه البلدان والقوى الاقتصادية الاستراتيجية الجديدة نذكر الصين والهند والعديد من بلدان شرق آسيا ككوريا الجنوبية وتايلندا ويمكن ان نذكر من افريقيا نيجيريا وافريقيا الجنوبية والمملكة العربية السعودية في المنطقة العربية .
وقد عملت المنظومة الدولية على خلق مؤسسات جديدة او اصلاح المؤسسات الدولية التقليدية لفتح المجال للبلدان الصاعدة للمشاركة في ادارة الازمات العالمية والمحافظة على استقرار العالم وأمنه .
وتمكن لنا في هذا المجال الاشارة الى مجموعة العشرين والتي خرجت من التهميش الذي كانت تعيش فيه في بداياتها لتصبح اثر الازمة المالية العالمية لسنوات 2008 و2009 احدى ركائز النظام المتعدد الاقطاب .ولئن لم يقع الغاء مجموعة السبعة الكبار والتي ظلت تضم القوى الرأسمالية التقليدية فقد بدأت مجموعة العشرين تلعب بدور كبير في من خلال اجتماعاتها على مستوى القمة لتساهم في ادارة العالم والمساهمة في حل بعض القضايا الدولية .
ولم تقتصر مؤسسات العالم المتعدد الاقطاب على احياء بعض المؤسسات القديمة كمجموعة العشرين بل شملت كذلك اصلاحات طالبت بها البلدان الصاعدة لتوسيع تمثيليتها في عديد المؤسسات المالية الكبرى كالبنك الدولي وصندوق النقد .وقد بقيت هذه الاصلاحات محدودة لتتواصل هيمنة المانحين التقليدين في مؤسسات بريتون وودز (Bretton woods) .
إلى جانب المؤسسات التقليدية الموروثة من العالم القديم عرفت العالم المتعدد الأقطاب بروز مؤسسات جديدة والتي لعبت دورا في دعم القوى الصاعدة ودورها السياسي على المستوى العالمي .
ومن هذه المؤسسات يمكن ان نشير الى بروز مظمة البريكز (BRICS) والتي تضمن البرازيل وروسيا والصين والهند وإفريقيا الجنوبية والتي اصبحت تنظم قمما على مستوى رؤسائها واجتماعات دورية لتنسيق مواقفها والدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية .
الى جانب هذه المؤسسات سعت البلدان الصاعدة الى خلق مؤسسات مالية مشتركة لدفع استثماراتها خاصة في ميدان البنية التحتية .ولئن انطلقت هذه المؤسسات المالية ببادرة صينية الا انها شهدت في فترة قصيرة التحاق عديد البلدان النامية في عديد القارات .
- في هشاشة العالم المتعدد الأقطاب
علقت المنظومة الدولية والعديد من الباحثين والمفكرين الكثير من الآمال على العالم المتعدد الاقطاب وعلى قدرته على الحفاظ على الاستقرار والأمن والتنمية .ذلك ان تراجع الاقطاب المهيمنة من شأنه ان يساهم في تراجع الغطرسة والتبعية ويفتح العالم على مبادئ جديدة قوامها التعدد والتنوع والتعاون وشيء الديمقراطية في العلاقات الدولية .
وبعد عقد من التجربة اثبت هذا النظام العالمي المتعدد الأقطاب هشاشة وعجز عن الايفاء بالآمال التي علقها عليه الكثيرون . عرف العالم في السنوات الأخيرة تواتر الازمات السياسية والتي تحولت الى حروب طاحنة في عديد المناطق في العالم ابتداء بالمنطقة العربية في سوريا واليمن وليبيا .وتشكل اليوم الحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا اهم مثال على عجز النظام المتعدد الأقطاب على حل النزاعات والمحافظة على السلم العالمي.
ولم تقتصر الأزمات على الجانب السياسي بل شملت الجانب الاقتصادي والمالي مع عجز المؤسسات الدولية والسياسات الاقتصادية على المستوى الوطني عن تجاوز الانكماش التضخمي الذي اصبح يهدد الاستقرار الاجتماعي في العديد من البلدان .
كما يمكن أن نشير الى المناخ حيث عجزت المؤسسات العالمية والدولية عن الوصول الى اتفاق الحد من الانحباس الحراري رغم التسريع الكبير والخطير في انعكاساتها .
أثبتت هذه التطورات هشاشة النظام المتعدد الاقطاب في الحفاظ على السلم والأمن ودفع التنمية وبناء قواعد العيش المشترك .وقد دفعت هذه الهشاشة الكثير من الباحثين والمفكرين الى طرح فرضية العودة الى عالم يحكمه قطبان كما كان الشأن في الحرب الباردة وهما الولايات المتحدة الامريكية من جهة والصين من جهة ثانية يمكننا من العودة الى وضع استقرار عالمي لا تهدد الحروب المحدودة (Guerres à basse intensité) كما يسميها خبراء الاستراتيجيا في العالم والتي من شأنها أن تهدد السلم العالمية .
هل يمكن للولايات المتحدة الأمريكية والصين ان يكونا ركيزتا الاستقرار في العالم ؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه خبراء الاستراتيجيا في العالم عند التفكير في سيناريوهات الخروج من حالة عدم الاستقرار والمخاطر الكبرى على السلم العالمية والتي خلقها العالم المتعدد الاقطاب .
لا تنفي هذه التحاليل الخلافات والصراعات بين هذين القطبين والتي تنذر في كل مرة بتطورها الى حرب مفتوحة كما كان الشأن مع المنطاد الاسخباراتي الذي أرسلته الصين في الفضاء الجوي الامريكي مما اضطر القوات الأمريكية الى اسقاطه.
وتهم الصراعات بين هذين القطبين مستقبل النظام العالمي وعلاقات الهيمنة والسيطرة على عالم الغد .وترتكز هذه الصراعات على ثلاث مسائل جوهرية .
-المسالة الاولى استراتيجية وتخص الهيمنة على المحيطين الهادي والهندي واللذين يمثلان نقطة الارتكاز المستقبلية للعالم .وتحاول الولايات المتحدة االأمريكية الحد من التأثير المتواصل للصين في هذه المنطقة من خلال بناء تحالفات كبيرة مع عديد البلدان المحاذية لهذه المنطقة من خلال احياء تحالفات قديمة مثل تحالف الكواد (Quad) مع الهند واليابان واستراليا او من خلال خلق تحالفات جديدة مثل بلدان الاوكوس (Aukus) والتي تضم الى جانب الولايات المتحدة الامريكية بريطانيا واستراليا .وتسعى هذه التحالفات الحثيثة التي تقوم بها الولايات المتحدة في المنطقة الى ايقاف التوسع الصيني في منطقة يعتبرها الجميع مستقبل الاقتصاد العالمي .
المسألة الثانية استراتيجية كذلك وتهم مستقبل تايوان والتي تشكل مسالة حياتية بالنسبة للصين وقد اكدت استعدادها لضم الجزيرة والتي تعتبرها جزءا من ترابها .وقد اكدت الولايات المتحدة على التزامها بدعم تايوان في صورة هجوم الصين .وجاءت زيارات مسؤولين أمريكيين من أعلى مستوى مثل زيارة نانسي بيلوزي رئيسة المجلس النيابي في صائفة 2022 لتؤكد على الدعم.وقد عرف الموقف الأمريكي تحولات كبيرة مع وصول الرئيس بيد الى البيت الابيض حيث تحرر من الموقف الغامض والملتبس الذي اخذته مختلف الادارات الامريكية من مستقبل تايوان منذ عودة العلاقات الديبلوماسية سنة 1979 ليصبح مساندا مساندة كلية للجزيرة ويعبر عن استعدادة للتدخل العسكري في صورة هجوم صيني .
أما المسألة الثالثة فهي اقتصادية وتكنولوجية وتهم السيطرة على الصناعات الجديدة او ما نسميه صناعة 0-4 وتسعى الولايات المتحدة بكل قواها الى وضع حد للنجاحات التي حققتها الصين في هذا المجال .فقد واصلت الادارة الامريكية الحالية تطبيق القرارات التجارية الحمائية التي اخذتها ادارة ترامب بل ودعمتها بإجراءات جديدة مثل قانون الشيبس(loichips) والتي تعمل على منع بيع التكنولوجيا الامريكية وخاصة التجهيزات الالكترونية (micro processeurs) الى المؤسسات الصينية وتسعى الادارة الامريكية الى اعادة بناء سيادتها في المجال التكنولوجي وتحقيق سبق كبير على الصين .
تشير هذه المسائل الى حدة الصراع بين القطبين القادمين للعالم اي الولايات المتحدة والصين والتي تهدد بالتحول الى مواجهة مفتوحة .وقد قال احد القادة العسكريين الأمريكيين وهو الجنرال مايك نيهان (Mike Nihan) في تقرير مسرب في الأيام الأخيرة 'اتمنى أن اكون مخطئا لكننا سائرون حسب تخميني الى مواجهة في 2025".
ورغم حدة هذه الصراعات اشار عديد الخبراء في المجال الاستراتيجي الى ان يشير هذا الصراع يشير الى سلام الشجعان بين القطبين ويقود الى حرب باردة جديدة تعيد توازن الخوف الذي عرفناه في السابق وتساهم في استقرار العالم .
عرف العالم منذ نهاية الحرب العالمية ثلاثة انظمة دولية كبرى.النظام الأول هو نظام القطبين والذي كان وراء الحرب الباردة واستمر من نهاية الحرب العالمية الثانية الى سقوط جدار برلين في 1989.اما النظام الثاني فهو نظام القطب الواحد تحت الهيمنة الامريكية والذي استمر الى 2008.اما النظام الثالث فهو القائم الان وهو النظام متعدد الاقطاب والذي اثبت هشاشته وعجزه عن تأمين السلم والنمو .
وأمام الأزمات المتعددة للنظام العالمي انطلق التفكير في السيناريوهات المختلفة للخروج من هذه الوضعية ومن ضمن هذه الاحتمالات نشير الى العودة الى نظام القطبين مع حرب باردة جديدة بين الصين والولايات المتحدة الامريكية .
وفي ظل هذه الاوضاع المتأججة والتي تنبئ بتحولها الى صراعات مفتوحة على المستوى العالمي تكمن مسؤوليتها في احياء مبدإ عدم الانحياز وتلافي الاصطفاف وراء هذه المحاور الكبرى والدفاع على مصالحنا . لإحياء هذا المبدإ والمساهمة في الخروج من الصراعات التي تهدد السلم العالمي وبناء نظام عالمي جديد متعدد ومنفتح على اطرافه والهامش لابد لنا من تدعيم تحالفاتنا الاقليمية في افريقيا والوطن العربي من اجل الضغط الإيجابي على التحولات العالمية .