ضعف الاليات الدولية امام هجمة النظم الديكتاتورية التي اكتسبت مناعة لم تنعم بها منذ عقود وذلك بسبب حسابات الدول الكبرى ، التي اثرت مصالحها الجيواستراتجية والاقتصادية الانية على المبادئ الحقوقية العامة وصعود التيارات الشعبويةالمتعالية على كل المؤسسات الديمقراطية، اضافة الى امتلاك الانظمة الديكتاتورية لوسائل المراقبة التكنولوجية ، مما سهل ترصّد النشطاء ومزيد التضييق عليهم،
تونس التي عرفت، بعد ثورة جانفي 2011، انتقالا ديمقراطيا مهمّا على مستوى الحقوق المدنية والسياسية رغم الهنّات والعثرات الكثيرة، ليست استثناء، حيث شهدت منذ 25 جويلية 2021، تراجعا كبيرا على مستوى حقوق الانسان بسبب ضرب الضمانات المؤسساتية ومحاولات السلطة الهيمنة على القضاء والتضييق على الاعلام وحرية الرأي والتعبير واستهداف الاحزاب السياسية امام تردد و ارتباك المنظمات الحقوقية، بالإضافة الى الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي ما انفكت تزداد صعوبة يوم بعد يوم،
وطبعا الحركة الحقوقية ليس مطالبة فقط بالاحتفال بذكرى 10 ديسمبر والتركيز على اهميته التاريخية بالنسبة للإنسانية جمعاء، والاكتفاء بالبيانات التذكيرية العامة، بل هي مدعوة الى مراجعة اولوياتها وتحديد موقعها من المتغيرات السياسية وضبط استراتيجيات واضحة وبعيدة المدى حتى يكون للحقوق الانسانية بكافة ابعادها المدنية والسياسية والاقتصادية والبيئية قيمة ونجاعة، وحتى لا تظل هذه الحركة أسيرة ملاحقة الاحداث عوض الفعل فيها ومحاولة توجيهها، بما يخدم الانسانية.
• مفارقة العولمة:
احدثت العولمة تغييرات مهمة في العلاقات الانسانية وخاصة عبر تركيز المعسكر الغربي ، بعد انهيار جدار برلين وتراجع حلف وارسو، على قيم الديمقراطية وحقوق الانسان ، كمكونات اساسية في النظام الراسمالي الجديد ذي القطب الواحد، لكنها انتجت مفارقة تكاد تعصف باهم مكاسب الحداثة والتنوير، اذ بقدر تسهيلها انسياب العلاقات التجارية والسلع ، بقدر ما همشت المبادئ الانسانية وعمقت التفاوت الاجتماعي والفوارق الثقافية بين المجتمعات ، وقدافرز تنميط قوانين السوق وتوحيد القيم الرأسمالية والسعي للربح السريع من ناحية والانغلاق والتنمر على الثقافات الاخرى ، مع مايرافق ذلك من ظواهر العنصرية والكراهية للاجانب ، خطابات وممارسات متطرفة تهدد المبادئ الاساسية لحقوق الانسان في اعرق الديمقراطيات، ولا ادل على ذلك من تنامي شعبويات طفيلية تعادي كل المؤسسات وترفض التنوع والتعدد.
لذلك فان الخطر الذي يهدد حقوق الانسان اليوم هو التأكيد على الهوية الخصوصية وابرازها، مما يحصر مفاهيم الابعاد الحقوقية في زوايا وطنية ودينية وعرقية ضيّقة ومعادية للاختلاف، وهو ما يتعارض مع عالمية وشمولية الحقوق وتجاوزها لكل انتماءات الضيّقة، بما انها تتعلق بالانسان وكرامته وتسمو على اي من القوانين الوضعية الاخرى، وهذا ما اكده المؤتمر الدولي لحقوق الانسان المنعقد بفيانا سنة 1993 في تقريره الختامي من ان جميع حقوق الانسان عالمية ومترابطة وغير قابلة للتجزئة.
• العولمة والكونية:
بعبارة اخرى، هناك هوة ما انفكت تتسع وتشي بالخطورة، بين العولمة ببعدها الاقتصادي والمالي وبين كونية مبادئ حقوق الانسان ، فالأولى قائمة على تمدد السوق والتطور التقني وانتقال المعلومات والاموال وفتح الحدود امام البضائع ، وهي متوترة وعدائية احيانا والثانية قائمة على مبادئ ثابتة منفتحة على الخصوصيات وساعية الى احترامهاو تثمنيها، لانها ذات «صفة كونية وتعنى بالجنس البشري كافة» « كما يقول الفيلسوف البلغاري Todorov، ولانها كذلك فقد» ولدت منها ضروب من الكفاح لا زالت متواصلة الى اليوم : الكفاح من اجل ان تكون النساء مساويات للرجال امام القانون وان يلغى الرق وان لايقع تشريع ابدا للتصرف في حرية اي كائن بشري ...»
والخطر اليوم ان كل المبادئ التي اتفقت عليها الدول وضبطت القوانين الانسانية لتثبيتها، وهي تستحضر جنون الحروب المدمرة التي خاضتها البشرية، هي اليوم مهددة بالنسيان والتلف، امام صلف الديكتاتوريات السياسية والمالية وضعف اليات الحماية.
• الثورة التونسية: كانت معركة حقوقية
لانها جاءت استجابة لتلك المبادئ والقيم الانسانية الكونية، فقد لخصت شعاراتها اركان المواثيق الدولية بابعادها المدنية والاجتماعيةوكانت منعرجا مهما ، ليس في تاريخ البلاد فحسب ، بل في تاريخ المنطقة العربية عموما ، حين اختزل الشعب التونسي في شعاراته اهم المبادئ الحقوقية التي جاء بها الاعلان العالمي سنة 1948 ، ومثلما جاءت تلك المبادئ العامة بعد حرب كارثية انهكت البشرية، فاستفاقت لتؤسس لعلاقات بشرية جديدة ، فان ثورة 2011 قد جاءت بعد عقود من الاستعمار واكثر من نصف قرن من الديكتاتورية والانتهاكات المريعة لحقوق الانسان لتؤسس لنظام حكم جديد قوامه الديمقراطية والتعدد وسيادة الشعب، وبرز مفهوم انساني تصدر التحركات والمظاهرات والنقاشات، وهو مفهوم الكرامة الانسانية بكل ابعادها ، وهي ذات الكرامة التي خطّها الاعلان العالمي لحقوق الانسان في فصله الاول حين اعلن ان « جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق .» وجاء دستور 2014 ليعكس طموحات الشعب التونسي في حكم مبني على «حقوق الانسان» و»دولة القانون « و»المواطنة والاخوة والتكافل والعدالة الاجتماعية»
ولان الحقوق لا تتجزأ ، وهو ما انتبهت له الدول عبر سلسلة من المواثيق التي تنصص على شمولية حقوق الانسان ، المدنية والسياسية والاجتماعية والبيئية، ولان حكومات ما بعد الثورة ، كلها دون استثناء، اصابها غرور الحكم والسلطة فلم تنتبه لاحتجاجات الشباب والجهات الداخلية وتناست تماما مطالب الثورة التي ربطت بين الديمقراطية وحقوق المواطنين والعدالة ، فان الحقوق المدنية قد فقدت بريقها امام تصاعد مظاهر الفقر وعودة الفساد وتنامي الفوارق الاجتماعية ،، مما سهّل عودة الاستبداد وفتح الباب امام الشعبوية السلطوية التي استفادت من الغضب الشعبي لتهدم كل المؤسسات وتؤسس لحكم فردي قد يطول بقدر عجز المؤسسات التعديلية والاحزاب والمنظمات عن الدفاع عن شرعيتها.
• دروس للاستفادة:
رغم مرارة الانحراف الاستبدادي الذي نعرفه اليوم، فان التجربة التونسية قد قدمت درسين لمن يريد ان يتعظ وينهض من جديد، الأول يتعلق بالأحزاب السياسية التي حكمت – وعارضت- بعد الثورة ، وهو ان حقوق الانسان لا تتجزأ وان تغييب أي من هذه الحقوق له ارتدادات خطيرة قد تكون هي اول ضحيتها، والدرس الثاني يخص المنظمات الحقوقية التي ساندت إجراءات 25 جويلية 2021 ، في بداياتها وتغافلت عن تجاوزات عديدة وانخرطت أحيانا في مسارات مشبوهة بدافع «مسايرة الامر الواقع»، وهي ان الفرز السياسي والايديولوجي يفقد النشاط الحقوقي مصداقيته ويتناقض تماما مع مرجعيته الإنسانية السامية.
منبــــر: حقــوق الإنســان: من أين نبدأ ؟
- بقلم مسعود الرمضاني
- 11:25 15/12/2022
- 1521 عدد المشاهدات
الاتفاق اليوم هو ان حركة حقوق الانسان تواجه تحديات عديدة لم تعرفها منذ عقود، وذلك لأسباب يصعب حصرها ، لكن يمكن ان نذكر منها بالخصوص