الذي أصدره النظام الإيراني لمراقبة النساء في الشارع أو أماكن عملهن ، وبعد أيام قليلة توفيت ماشا في مراكز الامن تحت التعذيب، مما أثار موجة من الاحتجاجات لم تستطع ان توقفها حملات القتل والتعذيب والسجن ، احتجاجات تجاوزت شأن الحجاب لتطرح قضايا جوهرية ، مثل حقوق المرأة عامة وحريتها في جسدها وحقوق الأقليات العرقية والدينية والجنسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية في ظل نظام لم يعد بإمكانه إثبات وجوده السياسي واستدامة حكمه عبر التبريرات الدينية ، بعد ان أرهقته مناكفاته الخارجية ، والتي وظفها في البداية من اجل تحشيد الدعم الشعبي- وازماته الاقتصادية المتتالية وفشله في فرض أيديولوجية دينية منغلقة تآكلت عبر عقود من التوظيف والتسلط.
جسد المرأة : حلبة صراع السلطة
الصراع حول الحجاب، ليس بالامر الطارئ او المستجد في ايران ، سواء في عهد الشاه أو في عهد الحكم الإسلامي ، فقد كان دائما موجودا، سواء بالزام خلعه او فرض لباسه ،منذ سنة 1936 ، فرض رضا بهلوي ، الذي ينتمي الى من كانوا يُسمونهم «الديكتاتوريين العلمانيين» ، مثل كمال مصطفى في تركيا ، منع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة وحتى مكان العمل لأنه يعتبره «سببا تخلف الايرانيات»، وتأكدت قناعته بعد زيارته لتركيا سنة 1934 ومشاهدته للنساء التركيات وهن يتجولن في الشوارع دون حجاب، وتواصل الأمر مع ابنه، محمد رضا بهلوي ، لكن بطريقة أقل جزرا ، مما قلل من أهمية المسألة ، بل ومن أهمية صراع الفقه والدين في الحياة الاجتماعية.
سنة 1979 ، اعتبر الاب الروحي للدولة الإسلامية ، اية الله الخميني، ان الثورة ، التي كانت في الأصل ثورة على نظام الشاه القمعي وشاركت فيها كل التيارات الفكرية والسياسية المعارضة بمن فيهم الشيوعيين واليبراليين ،جاءت مضادة للغرب وقيمه وقوانينه ، بما فيها تلك التي تهم مكانة المرأة ودورها في الحياة والمجتمع، اذ قال خلال مقابلة مع الصحفية الإيطالية اورينا فلاتشي ، ان هناك نوعين من النساء، «اللواتي ساهمن في الثورة « وقدمنّ «نموذجا لمعناها وأهدافها» وهنّ «من كنّ يلبسن ثيابا بسيطة» وفي المقابل هناك»الانيقات المتبرجات اللواتي يضعن المكياج وينزلن الى الشارع فيثرن اهتمام الناس وغضبهم.» وخلص الى انه يمكن للمرأة الإيرانية «ان تشارك في العمل الاجتماعي ...ولكن مع الحجاب الإسلامي.» وبذلك اغلق قوس التحرر الذي ساد خلال أسابيع الثورة على الشاه.
غباء «تجاهل المخاطر»
في كتاب اذر نفسي «أشياء كنت ساكتة عنها»، تقول الكاتبة الإيرانية الهاربة من وطنها خوفا من الكابوس السياسي والديني الذي بدأ يسيطر على ايران بعد ان تملك النظام الإسلامي من السلطة واستهدف ، لافقط المرأة بل كل المعارضين ، ان اية الله الخميني ومجموعته ، «اختبأوا « في المساجد وكانوا وراء القوى العلمانية والليبرالية واليسارية التي اشعلت شرارة الثورة وقدمت عديد الشهداء و ضحايا الاختطاف والتعذيب والسجن ، لكن «في اللحظات الأخيرة، تجاهلت هذه القوى عمدا ما كان يخطط له» الزعيم الروحي، ولم تكن تدرك مخاطر «التقية» التي كان يستبطنها لتمرير مشروعه ، الى ان افصح صراحة ان «التمرد على حكومة الله هو تمرد على الله.»
التدرج في فرض الحجاب
وقد واجهت إرادة اسلمة المجتمع وفرض الحجاب بمعارضة ، ليس من الليبراليين فقط ، بل حتى من بعض الرموز الإسلامية المستنيرة ممن يسمون رواد «العقلانية الدينية»، لذلك لم يقع إلزام المرأة به، فعلا، الا بعد اربع سنوات ، أي سنة 1983، حين منع وجود المرأة في الأماكن العمومية مثل المرافق الإدارية والأسواق العامة والجامعات دون حجاب، وفرض عقاب ب74 جلدة على اللواتي رفضن «الشادور»مع خطايا مالية وعقوبات سجنية.
ورغم ما واجهته إيران أخيرا من تحديات داخلية تتمثل في ارتفاع مستوى الفقر وضمور الطبقة الوسطى وفقدان العديد من المواد الأساسية وارتفاع الأسعار وأخرى خارجية تتمثل في مواصلة الغرب حصاره لإيران على خلفية برنامجها النووي ، فان الرئيس الإيراني ، إبراهيم رئيسي، قد زاد من فرض قيود على لباس المرأة عبر سنّ قانون «الحجاب والعفة» وتشكيل فرق تفتيش متنقلة ، تجوب الأماكن العامة والادارت والكليات، لتراقب وضع الحجاب بطريقة كاملة وتتاكد من ان وجوه النساء خالية تماما من مظاهر الزينة وان لباسهن فضفاض حتى لا يظهر تقاسيم اجسادهن، عطفا على اقوال الخميني وارائه في بداية الثورة ، الا ان الزمن تغيّر والرغبة في اسلمة كل مظاهر الحياة واستهداف جسد المرأة كساحة معركة سياسية وإخراج الخطاب الديني من دائرة الفقه الى دائرة الفضاء العام السياسي والثقافي لم تعد تأتي اكلها أمام أجيال جديدة ، ولدت بعد الثورة في واقع التحولات الرقمية الهائلة التي وسعت من آفاقها الفكرية والاجتماعية وأصبح لها معايير قيمية وسلوكية مختلفة ، بل ومعارضة تماما للقيم التقليدية التي طالما كانت ذريعة النظام .
الايرانيات واستكمال الثورة
في حوار أجرته نشرية The New Yorker مع فاطمة شمس ، تذكر الكاتبة والشاعرة والمترجمة الإيرانية ان شعار الثورة الحالية هو استمرار لثورة شعبية لم تكتمل وأن الشعارات مهمة، حيث تُستشف معاني الثورة من شعاراتها المرفوعة»، حيث لم يكن شعار المساواة مطروحا سنة 1979 ، بل اقتصرت الاحتجاجات على المطالبة «بالخبز والحرية والشغل» اما اليوم فقد تصدرت حرية المرأة المظاهرات تحت يافطة : «المرأة والحياة والحرية» و باشكال وتعبيرات مختلفة ،يقع التركيز بشكل ملفت على تحرير جسد المرأة من الهيمنة والسيطرة والعنف ومن اضطهاد السلطة.
درس إيران:
معركة الحجاب في ايران اليوم هي معركة سياسية وثقافية واجتماعية ، وهي شكل من اشكال التمرد على الدولة ووصايتها وتقييدها للحرية الشخصية ، وهي مختلفة عن تصورات الشاه الذي لا يتجاوز تحديثه المظهر الخارجي والمحاكاة، كما تتخطى قيم نظام الحكم الإيراني اليوم الذي يستدعي كنه وجوده الربط بين الفقه الديني والسياسة وتحويل حجاب المرأة الى هوية أساسية لحكمه ومبرر وجوده، والخلاصة ، انه سواء ان السلطة فرضت منع الحجاب او الزمت النساء بوضعه ، فانها حرمت نصف المجتمع من تقرير مصيره ومن حريته الشخصية في جسده وذاته، وأيضا في معتقده وهنا النساء لسن استثناء.
وربما اهم درس اختزلته الكاتبة سيسيل بريور حين قالت:» بدأت هذه الانتفاضة نسوية ، ثم عممت لينخرط فيها الشعب وكأن الشعب الإيراني استوعب انه لن يتمتع أحد بالحرية طالما أنها ممنوعة على النساء».