شعبوية .. وبعد؟

بمتابعة وصفية و دون عمق نلحظ منذ سنتين تراجعا عن تداول الحديث في مجمل المحاور التي طبعت مرحلة الاستقطاب العلماني الإسلامي

في الخطاب السياسي والإعلامي السائد ليحلّ محلّه خطاب مداره الرئيسي الشّعبوية , بل بضرب من انقلاب الأوضاع تحوّلت معجمية الإسلام السياسي الي معجمية مطاردة في الفضاء الشعبي الواسع لا فقط في حلقات النخب فهو هدف شعار الأرحلية . le dégagisme . الجديد الذي وظفته شعبوية قيس سعيّد الصاعدة , وقد مثلت الشحنة العاطفية القوية التي يحملها شعار «ارحلوا» في وجه الإسلاميين ومن والاهم طول العشرية السابقة تحويلا نفسيا لرفض الديمقراطية برمتها ونزوعا نحو طلب الاستقرار و حكم الدولة القوية .
لقد افرز هذا الوضع الجديد موجة هلع ثانية في أوساط طيف واسع من الحداثيين بعد موجهة الهلع الأولي خاصة إثر نتائج انتخابات أكتوبر 2011 فإذا كان شعار الأولي : «أن تكون ديمقراطيا حداثيا يعني ان تكون لا إسلاميا » قد صدئ من فرط تهافته و بعد اختبارات الواقع و محطات التوافق الفاشلة , فإن شعار الموجة الثانية صار «أن تكون ديمقراطيا هو ان تكون لا شعبويا» والمقصود هنا طبعا شعبوية قيس سعيّد .
مرة أخري يغلب الهلع حركة الفكر و يمنع جدلا غير عقيم حول الشعبوية نحن في أمس الحاجة إليه , لأن الإفراط في استعمال تصنيفة الشعبوية دون حذر يجعلها غير مفيدة وأحيانا ضارة , فتحويل الشعبوية إلى مشكلة بحث لا بدّ أن يحمل محمل الجّد و يشترط بداية رفض الاطمئنان إلى تعريفها فقط سلباً باعتبارها مرض الديمقراطية العضال، كما يشترط الحذر ممن يتخذها تعلة رفضها لتبرير «ديمقراطية لا شعب فيها «. ( Une démocratie sans démos )
ما يعنينا هنا بداية هو اخذ مسافة من تلك المقاربات العمياء التي تنظر للشعبوية كتهديد آلي للديمقراطية في كلّ زمن وكلّ ضرف فهي لا تدرك جانب الانفعالات والأهواء، وتصريف المكبوت، وطلب الكرامة والعدالة والاعتراف بالوجود، وفرض الذّات... وهي الجوانب التي تسربت منها الشعبويات ليس دائما سلبيا لتتحوّل الى عرَضٍ سياسي.
تاريخ الشعبوية كما نقرؤه مع روزان فالان أو مع تراغوني يرسم لنا ثلاث تعبيرات كبري لها , بداية من منتصف القرن 19 مع حركة (narodnichestvo) وهي حركة مثقفين من الطبقة الوسطي بمشاركة نسائية حاولت تحت تأثير ربيع اروبا في 1848 تعبئة الفلاحين ضد حكم القيصر في روسيا .
التجربة الشعبوية الثانية هي حركة الفلاحين في الولايات المتحدة التي شكلت حزبً الشعب في عام 1892 , اللحظة التاريخية الثالثة و الأقرب إلينا اليوم أمريكا اللاتينية ، والتي أ رست بناء مؤسسات تهدف الي استكمال السيادة الوطنية وضمان الادماج الاجتماعي عبر نظم رعاية وحماية و إعادة توزيع ثمار التنمية.
هذه الشعبويات اللاتينية هي التي الهمت التنظير المابعد ماركسي لأرنستو لا كلو و شانتول موف لإستراتيجية شعبوية يسارية تتبناها حركة بوديموس وفرنسا الأبية بزعامة (Mélenchon) وكذلك تيار النائبة اليسارية الألمانية (Sahra Wagenknecht )بأشكال مختلفة
غير أن تكاثر التعبيرات الشعبوية القومية والتسلطية في بداية هذا القرن مع ترامب ، وأوربان ، وسالفيني وأخيرا جورجيا ميلوني في إيطاليا ، وبوتين ، وبولسونار وأردوغان .. جعل الشعبوية كلمة عام 2017 وفقًا لقاموس كامبريدج
هكذا نقف عالميا في سياق شعبويات كثيرة أمام اتجاهات ثلاث أولها الثقة في توسّع استخدام دلالة الشعبوية المتسللة داخل مياه اليسار الرّاكدة لإكساب «الديمقراطية لبوسا راديكاليا» يشدّ الشعب اليها فهي من هذا المنظور حجر الزاوية لنظرية معرفية جديدة للسياسة في زمن العولمة و هيمنة الأوليغارشيات والثاني يبعدنا عن معرفة بتاريخ المفهوم و يرفض دخول الشعب حقل السياسية و يدافع من وراء رفض الشعبوية عن ديمقراطية تمثيلية هشة تعيد إنتاج نفس علاقات الهيمنة داخل الحقل السياسي , و الثالث هو تبرير شعبوية سلطوية و يمينية تقمع الحريات و تكرّس الفوارق الاجتماعية في آن باسم الشعب .
فأين نحن إزاء ظاهرة قيس سعيد من هذه الاحتمالات؟
من المؤكد أننا لسنا إزاء حركة شعبوية في تونس منظمة على غرار الموجة الثالثة في أمريكا اللاتينية أو على غرار تجارب أوروبية معاصرة فالرئيس يستند إلى مقوّمات أبسط و عناصر تفكير مفككة غير متجانسة ثم إن خطابه، يتوجه الي بنوك غضب دفينة و أنصاره لا خيط ناظم يجمعهم وهم متحولون على مدار الساعة فمنهم ائتلاف الكرامة يوما ما و حزب التحرير وقدماء التجمع و عتاة اليسار الماركسي و طيف من حداثيين فتك بهم الخوف على البلاد كلها من الأسلمة حتي قبلوا التواطؤ مع التسلّط و الانقلاب على المنجز الديمقراطي . ما يوحّد هذه الكثرة هو خطاب غائم و كرسي الرئيس في قرطاج . وما بينهما أرخبيل عائم فوق مياه هي محلّ نزاع أيديولوجي .
مدار الاهتمام الآن هو طرح سؤالين في نفس الوقت حتي لا يخفي أو يؤجل احدهما الآخر لماذا يقبل حداثيون بشعبوية تسلطية لا مكان فيها لقيم الجمهورية بل للعقل أساسا وهم اللذين عابوا على الشعب خنوعه ؟ ولماذا يقبل شعب الفقراء بزعيم شعبوي يعمق جوعه وآلامه و لا يبيعه إلا وهم الكلمات ؟
عن السؤال الأول يمكن تقديم جواب عام لا يمسح كلّ الحالات منفردة نواته الصّلبة طلب العودة في افضل الأحوال الي فكرة الزعيم الأوحد القوي قبالة صورة الغنوشي , وفي التحليل الأخير طلب حكم فردي والتخلي عن كلّ طموح ديمقراطي و التطبيع مع انتهاكات حقوق الانسان و خنق المعارضات السياسية . دفاع جزء من الحداثيين عن هذا الخيار يكشف إيمانهم السطحي بالديمقراطية ويدعو الي مراجعة مغالطة الربط الآلي بين الحداثيين و الديمقراطية .
جواب السؤال الثاني يبدو أعسر فلا أحد يستطيع المغامرة بعرض جواب كامل غير أن هذا الخنوع الطوعي رغم الخساسة لسلطة قوية ليس غريبا عن المعذبين في الأرض فهم ليسوا دوما في حالة ثورة مستمرة ومعظم ثوراتهم تنكسر على صخر الواقع أو تأكل أبناءها , ما هو لافت الآن على الأقل هو خروج الإسلام السياسي من صورة اليوتوبيا المنقذة و تأكد استحالة الدولة الإسلامية لدي عامة الناس خاصة المتدينين وهي خطوة أضعفت دور الدين في الحقل السياسي وربما نقلتنا الي مرحلة جديدة في أنتروبولوجيتنا السياسية سيلعب فيها الإسلام السياسي المعدّل دورا عاديا في سياق ديمقراطي .
ويبقي احتمال قبول دولة سعيّد ضغوطات سياسة التقشف و خيار مواصلة الانشغال بالتوازنات المالية و تحميل الأجراء و الفئات الهشة تبعات ذلك و مواصلة مغالطتهم بخطاب فضفاض معطي قد يغير ما نحن فيه مما قد يدفع «السيستام» تحت مسؤولية الرئيس لتشديد القمع و إشعال خط مواجهة مع الناس مجهول العواقب و ربما تأكدّ الأيام القادمة هذا السيناريو.
في كلّ الحالات يضل المجتمع التونسي اليوم مفككا وبلا عقد اجتماعي يحولّه الي شعب أو إلي «أمة» في ضلّ نظام ديمقراطي ولا تقف كلّ طبقاته من مشروع دولة الرئيس نفس الموقف ولا تنخرط معه أو ضده من منطلقات متباينة مما يجعل سوق السياسة منظورا إليها كصدي للصراع الاجتماعي لا معارك لطواحين الريّح مفتوحة على سيناريوات وخيارات عدة :
من اختار المضي قدما مع الرئيس عن قناعة سياسية لا يمثلون تيارا ولا حركة شعبوية بكل المقاييس وهم دونه وبعده شتات يصعب جمعه فالتّحزب للرئيس حتي دون حزب لا يلغي احتمال التشظي بعد غياب الرئيس فهو عامل الوحدة الأول كما حصل مع نداء تونس رغم الفوارق في التوقيت و في أشياء اخري فهم غير قادرين موضوعيا على بناء حركة من أسفل بل عامل وحدتهم قمة الهرم لا قاعدته كما يعتقدون .
من اختار التريث بلا صوت ولا راي منتظرا احتمال الالتحاق بالرئيس صديقا أو حليفا مؤقتا لأزمة حكمه لن يستطيع أخلاقيا الصمود طويلا على هذا الراي , وهؤلاء في آخر المطاف لاعبين غير مؤثرين و رهانهم على أن يرثوا حركة قيس سعيد طفولي وكسول لأنها بكل بساطة غير موجودة ثم أن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين إلا في شكل مهزلة وشعب الرئيس سيتفرق قبائل هذا إن لم تطحنه حرب طوائف داخلية قريبا .
لا حركة شعبوية لنا اليوم قابلة للبقاء بعد» عهد قيس سعيد «فمن يريد ديمقراطية ليبرالية تقطع مع نزوع شعبوي سابق ولاحق لقيس سعيد لا حلّ له إلا المقاومة حاضرا وبناء الذات فكريا وبرنامجيا وتنظيميا وهي معركة حركة ومعركة مواقع في آن .
نهاية حقبة قيس سعيد على المدي المتوسط أو البعيد إن بقيت الأوضاع على حالها ستعيد للمشهد القديم اركانه أي أسبقية للإسلاميين و الدساترة رغم قصورهم اليوم عن تغيير موازين القوي ليس فقط لأنهم منقسمون بل لأن شارعهم لا يمت بصلة لشارع « الغلابة» وهم في الأخير ورثة ماضي قريب وبعيد لم يمحي ثم هم في تنافيهم المتبادل أو في توافقهم لن يمثلوا حلاّ ولن يعيدوا الحق لأصحابه و الثورة الي مسارها التاريخي و المؤسساتي
لذلك فإنّ ما بعد هذه المرحلة أمر لا يستطيع اليسار كقوة غائبة تنظيميا وسياسيا تأجيله لأن التقدم نحو المستقبل بنفس الرؤي و التنظيمات و النرجسيات سيكون مرة أخري خسارة كبري لأجل ذلك من المفيد لليسار خوض النقاش حول الشعبوية عموما هل يمكن له أن يتبني إستراتيجية شعبوية يسارية تأخذ المسافة اللازمة من الرئيس لا من الشعب ؟ إذا كان الجواب بلا فلماذا ؟ وإذا كان الجواب بنعم فلماذا وكيف ؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115