في عديد الإمبراطوريات وحتى الكنائس الباحثين للقيام بدراساتهم إلا أن هذا المسار ودور البحث في المجتمعات التقليدية عرف حدودا وعوائق كبيرة لم تساعد على تطويره.ومن هذه العوائق هيمنة الخرافة على المخيال الشعبي والسرديات المتداولة .
كما يمكن أن نشير إلى دور القراءات والموروث الديني الذي شكل حاجزا كبيرا ووضع الخطوط الحمراء أمام العلماء لمساءلة السرديات الدينية .إلا أن دور العلم والبحث يشهدان تطورا كبيرا في المجتمعات الحديثة والتي جعلت الحداثة وإعمال العقل وسيلة لفهم العالم وجعلته قاعدتها الفكرية وأساسها الفلسفي .
فوضعت الإمكانيات المادية الكبرى لتطوير البحث العلمي وأصبح تقدم الدول مرتبطا بقدرتها على الاهتمام بالعلم والعلماء .فظهرت مراكز تكوين الباحثين في الجامعات الكبرى كما كونت أغلب الدول مراكز بحثية متطورة في جميع الميادين من العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى علوم الفيزياء والطبيعة والطب والرياضيات .وأصبحت هذه المخابر والتمويلات التي تتحصل عليها من الدول أو من القطاع الخاص تشكل منظومة رسمية ومتكاملة للبحث العلمي لا فقط على المستوى القطري والوطني بل كذلك على المستوى الدولي .وقد ساهمت هذه المنظومة على مدى تاريخها في اكتشافات كبيرة مكنتنا من فك أسرار عديد الظواهر الطبيعية والطبية والاجتماعية والاقتصادية .وساهمت هذه البحوث والنتائج في رسم السياسات لدرء المخاطر على الإنسانية وحمايتها من الأمراض والجوائح وكل الأوبئة والأخطار الأخرى .وقد شكلت قدرة المراكز البحثية على ابتكار التلاقيح لمجابهة فيروس الكوفيد 19 في ظروف قياسية أهم مؤشر على فاعلية البحث العلمي وقدرته على حماية الإنسانية من المخاطر التي تهددها .
ورغم هذه النجاحات عرفت منظومة البحث العلمي في مسيرتها الكثير من النقد الذي ساءل منهجيتها أو نتائجها وقدرتها على فهم العالم بكل تعقيداته .
وقد عرفت منظومة البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية حظها من الاكتشافات والنتائج المهمة كذلك شيئا من النقد وحتى الرفض .وقد تركز هذا النقد على عديد المسائل المنهجية ومن ضمنها الدور الكبير الذي تلعبه المناهج الكمية والتي حاول الباحثون من خلالها الاقتراب من العلوم الطبيعية أو المسافة التي يضعها الباحثون مع موضوع البحث مما يجعلهم غير قادرين على فهم تعقيدات الظواهر الاجتماعية .
وكان هذا النقد وراء ظهور منهجيات بحثية ومدارس مختلفة تسعى إلى تجاوز نقاط ضعف المنظومات الرسمية في البحوث الاجتماعية .وقد تمكنت هذه المدارس الجديدة من القيام بدراسات مهمة والوصول إلى نتائج ذات قيمة.
وتندرج الدراسة المهمة التي أعدها ونسقها الباحث سفيان جاب الله تحت عنوان «سوق اسبانيا أو مناهج الاقتصاد الشارعي في تونس» تحت إشراف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ضمن هذه المدرسة وهذا التوجه الذي يحاول قراءة الظواهر الاجتماعية من منظور مختلف .
وتكمن أهمية هذه الدراسة في رأيي في النتائج الهامة التي توصلت إليها والتي مكنتنا من فهم أكثر للديناميكية السوسيولوجية لظاهرة الاقتصاد الشارعي في بلادنا .كما أن أهمية هذا العمل تعود إلى كونه يؤسس،إلى جانب بعض الدراسات الأخرى التي احتضنها المنتدى،إلى جيل جديد من الباحثين الشبان والى تقليد جديد في العلوم الاجتماعية قادر على تجاوز معوقات المنظومة البحثية الرسمية وفتح آفاق جديدة أمام محاولات قراءة الواقع في ارتباط بعملية التغيير الاجتماعي .
• البحث العلمي من الهامش
تنخرط هذه الدراسة المهمة في مدرسة وتقليد مختلفين في البحث العلمي في الميدان السوسيولوجي فهي تنتمي إلى مدرسة انطلقت مع مدرسة شيكاغو في عشرينات القرن الماضي والتي حاولت تصورات مختلفة تنطلق من الهامش لأهم القضايا والظواهر الاجتماعية التي يعشها المجتمع الأمريكي .
وقد عرفت مدرسة شيكاغو نجاحا كبيرا في المنظومة البحثية الأمريكية لتصبح احد أهم المدارس الفكرية الأمريكية والتي لا زال تأثيرها متواصلا .وقد اهتمت هذه المدرسة بالظواهر الاجتماعية «لشعب الهامشيين» كالفقر والهجرة والانحراف .ولعل من أهم النتائج التي وصلت إليها هذه المدرسة الخروج من المنطق الاخلاقوي الذي يهيمن على دراسات وقراءات هذه الظواهر والتأكيد على أنها تشكل تأقلما مع المجتمع الرأسمالي وعنف التحولات الكبرى التي عاشها في مسار المرور والتحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث .
وقد عرفت هذه المدرسة تطورا كبيرا وأضحت لا تقتصر اهتماماتها على البلدان المتقدمة بل عرفت تأثيرا كبيرا على الدراسات السوسيولوجية في بلدان العالم الثالث التي وصلت إلى الاستقلال وانطلقت في عملية تحديث اقتصادية واجتماعية كبرى في غالب الأحيان دون حداثة سياسية وفي إطار أنظمة سياسية استبدادية سلطوية .وقد عارضت هذه المدارس التصورات والقراءات التقليدية التي أكدت أن المؤسسات الحديثة في هذه البلدان ستقود إلى امتصاص المجتمعات التقليدية ومجتمع الهامش .وقد أثبت المسار التاريخي لهذه البلدان القيمة العلمية لهذه المدارس إذ أن مجتمع الهامش شهد تمددا كبيرا جعله يهدد المجتمع الحديث في كيانه .
وقد مكنت هذه المدارس من بناء تقليد جديد في البحوث الاجتماعية لفهم الانعكاسات الاجتماعية لإخفاقات التنمية والمشروع التحديثي في بلادنا كما في العديد من بلدان العالم الثالث .كما أن ثراء هذه المدرسة لا يقف عند اختيارها الابستيمي في الاهتمام بالهامش واعتباره قائما بذاته تتطلب دراسته التخلص من شوائب الفكر التحديثي بل يكمن في اختيار منهجية بحثية جديدة ومختلفة .
• منهج البحث ووسائل فهم الهامش
يعود ثراء هذه المدرسة البحثية إلى اعتمادها على منهجية مختلفة عن المدارس التقليدية ساهمت في قمة النتائج التي وصلت إليها .وقد اعتقد سفيان جاب الله وفريق العمل الذي اشتغل على هذه الدراسة على هذه المنهجية التي يمكن تحديدها في أربعة مبادئ أساسية .
المبدأ الأول رفض الحياد في عملية البحث .فالاهتمام بالهامش عند سفيان جاب الله وفريقه ينم عن موقف نقدي من سياسات الدولة واختياراتها التي غذت البطالة والتهميش الاجتماعي ودفعت هذه الفئات إلى التأقلم مع الوضعية من خلال أنشطتها مع الواقع المتأزم .
أما المبدأ الثاني فيهم طريقة صياغة الفرضيات والتي ليست نتيجة اختيارات نظرية قبلية كما هو الشأن في الدراسات السوسيولوجية التقليدية بل هي نتيجة مسعى وتمش امبيريقي ينطلق من الواقع لطرح أسئلة بحثية وفرضياته .
أما المبدأ الثالث فهو التعدد المنهجي .إذ خلافا للمدارس التقليدية والتي غاصت في الأدوات الكمية تعتمد هذه المدارس على تنوع منهجي من خلال التأكيد على القراءات الكيفية وإضافتها للأرقام لفهم الظواهر الاجتماعية وفك أسرارها .وتؤكد هذه الدراسة على أهمية اعتماد الوصف في معناه الواسع والعام من حيث هو فهم للثقافات .
أما المبدأ الرابع فهو الولوج أو الاندماج مع موضوع البحث والدراسة وعدم الاكتفاء بالمشاهدة والملاحظة من البرج العاجي كما تقوم بذلك أغلب المدارس التقليدية .
وقد أثارت هذه الاختيارات المنهجية الكثير من النقد في ميدان العلوم الاجتماعية باعتباره أنها خرقت احد القواعد الأساسية في البحث وهو المسافة النقدية الضرورية مع موضوع البحث.
إلا انه لا تكمن أهمية النتائج التي توصلت إليها الكثير من الدراسات التي اتبعت هذا المناهج ومن ضمنها دراسة «سوق اسبانيا،أو مناهج الاقتصاد الشارعي في تونس «.
• الاقتصاد الشارعي في تونس الخصائص والديناميكية
تكمن أهمية هذه الدراسة تكمن في نجاحها في ضبط الخصائص الأساسية لهذه السوق والتي ستقوم من خلالها بتقديم بعض الإجابات على ديناميكيتها وحركيتها .
الخاصية الأولى تكمن في سمات العاملين في هذه السوق .فنحن بصدد شريحة ذكورية يغلب فيها «العزباء» ذوو التعليم المتوسط والذين ينحدرون من عرش «الفلايقية» قرب مدينة سبيبة.ويعمل اغلبهم ي ظروف عمل هشة وقاسية وغير آمنة» فـ%97 منهم لا يتمتعون بالضمان الاجتماعي كما أن %90 ليست لهم دفاتر علاج و%82 ليس لهم حساب بنكي .
أما الخاصية الثانية لهذه المجموعة والتي تؤكد عليها هذه الشريحة فهي أن المستوى التعليمي والثقافي المتدني للعائلة حكم بالفشل على آمالهم في مواصلة مسار تعليمي والنجاح فيه .
والخاصية الثالثة غياب العلاقة المباشرة بالاقتصاد التقليدي والرسمي .إلا أن %62 من هذه الشريحة تعتبر أن أنشطتها لا تضر بالاقتصاد التقليدي ويذهب %33 منهم الى أن أنشطتهم مفيدة للاقتصاد الرسمي .
ولا يقتصر التهميش على الجانب الاقتصادي بل يهم الجانب السياسي والمواطني.فـ%100 من افراد هذه الشريحة غير منخرطين في الجمعيات و%99 غير منخرطين في الأحزاب و%99 غير منخرطين في النقابات .
تشير نتائج هذه الدراسة إلى أننا بصدد مجتمع آخر ومجموعة تجمعها العصبية ولا يربطها أي رابط باقتصاد العاصمة من البنوك إلى التجار وصولا إلى مؤسسات الدولة .
وقد ربط هذا الاقتصاد الشارعي علاقات متناقضة ومعقدة مع العالم من حوله.فهو كما تشير الدراسة «اقتصاد خفي ومعلن في أن واحد .وهو من جهة أولى،لا نظامي (لا يخضع للاقتصاد المقنن الرسمي) وغير منظم (لا يخضع لتنظيم العمل التعاقدي المتعارف عليه).لكنه من جهة ثانية نظامي (لاعتراف الدولة بوجوده حيث تعجز عن تدميره لا من ناحية العجز الأمني بل لعجزها عن تعويض مكانته الاقتصادية والاجتماعية لأنه يعوض غيابها) ومنظم( بتعاقد غير معترف به) قائم على تضامن ميكانيكي بين مجتمع الباعة المرتبطين بوشائج أولية والمتشابهين جدا من زاوية أشكال تقسيم العمل المنخفض والتخصص شبه المنعدم وتطابق الأعمال ،فهم يبيعون نفس السلع تقريبا ،وينتمون إلى نفس الجيل والى نفس الجهة ونفس القبيلة (ص60) وقد مكنتنا هذه الدراسة المهمة من الغوص في عالم يحيط بنا يوميا لكننا نجهل أسراره وفي بعض الأحيان ونواجهه بالاحتقار والتعالي.وقد مكنتنا هذه الدراسة من فهم شيء من خصائص وديناميكية الاقتصاد الشارعي .
ولعل أهم نتيجة من هذه الدراسة هي أن تنامي هذا العالم الموازي هو في نهاية الأمر نتيجة لفشل سياساتنا وعجزنا عن ضبط الاختيارات القادرة على دمج المهمشين في عالم العقد الاجتماعي الحديث .
وتطرح هذه الدراسة تحديات كبيرة على المجتمع السياسي باعتبار أن إعادة بناء تجربة جمعية تاريخية في بلادنا تتطلب التفكير في انفتاح المجتمع الرسمي على مجتمع الهامش وإعطائه مكانه في العقد الاجتماعي الجديد الذي نرنو إلى بنائه .