عن منظّمة العمل الدوليّة ومنظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، اليونسكو، سنة 1966 والمتعلّقة بظروف عمل المدرّسين بصفة عامّة في مختلف المراحل التعليميّة. كما يحتفلون في نفس اليوم بذكرى مصادقة المؤتمر العام لليونسكو سنة 1997 على التّوصية الخاصّة بإطار التّدريس في التّعليم العالي فيما يهمّ أوضاعهم ومهامّهم وحقوقهم وظروف عملهم.
وفي إطار ما دأبت عليه اليونسكو، عند الاحتفال باليوم العالميّ للمدرّسين، من رفع شعار سنويّ تعبّر من خلاله عن الأوضاع التي يعيشها المدرّسون في أرجاء المعمورة، فإنّ شعار هذه السّنة هو: «الارتقاء بالتعليم يبدأ بالمدرّسين». وفي اختيار هذا الشّعار لسنة 2022 تأكيد من هذه المنظّمة العالميّة على الدور المحوريّ والأساسيّ للمدرّسين في مختلف مراحل التّربية والتّعليم، وعلى أهميّة الارتقاء بأوضاعهم المعنويّة والماديّة، وعلى أنّ أيّ محاولة لتطوير منظومات التربية والتعليم أو إصلاحها أو الارتقاء بها – بما في ذلك منظومة التعليم العالي والبحث العلمي – لا يمكن أن تنجح دون إيلاء المدرّس الأولويّة التي يستحقّ ودون وضعه في مركز دائرة الاهتمام والعناية.
وتنضمّ إلى احتفال اليونسكو باليوم العالمي للمدرّسين هذه السّنة، كلّ من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومنظّمة العمل الدوليّة، والدوليّة للتّربية، وهي منظّمة نقابيّة تجمع المنظمات النقابية من مختلف بلدان العالم في قطاعات التّربية، والتعليم بمراحلها، وأسلاكها العديدة، والمتنوعة. وفي هذا التشريك أكثر من مغزى ومعنى. أوّل وأبرز هذه المعاني، الإقرار بدور نقابات التّربية والتّعليم في تطوير منظومات التّربية والتّعليم الوطنيّة أو إصلاحها أو الارتقاء بها، وفي تمثيل المدرّسين وفي الدّفاع عن تصوّراتهم ورؤاهم فيها. وثاني هذه المعاني هو علويّة المعايير الدوليّة بالنسبة للعمل اللّائق وضرورة احترامها في حقل التّربية والتّعليم.
وقد حلّلت منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، في ورقة مفاهيم، الشّعار الذي اختارته هذه السّنة للاحتفال؛ وفصّلته إلى محاور رئيسيّة، لعلّ أبرزها المحور الذّي يتعلق ب»ظروف عمل العديد من المدرّسين غير لائقة وتضرب في الصّميم جاذبيّة المهنة». وإذ أكّدت الورقة على الدّور الأساسي للمدرّسين في إنجاح السنوات الجامعيّة والمدرسيّة خلال أزمة الكوفيد-19، فإنّها بيّنت أنّ المدرّسين يشتكون من عدم اعتراف سياسات الدّول بالأهميّة الأساسيّة لدورهم. فأغلب المنظّمات النقابيّة في قطاعات التربية والتّعليم المنضوية تحت الدّوليّة للتّربية، ومنها تلك الخاصّة بالمدرّسين الجامعييّن، تشتكي من تدنّي الأجور وتدهور ظروف العمل والبنى التّحتيّة وأنّه خلافا للخطاب الرّسمي فلا التّربية ولا التّعليم ومنه التّعليم العالي والبحث العلميّ من أولويّات الحكومات. كما أشّرت الورقة على ندرة الاستشارة الحقيقيّة أو المشاركة الفعليّة للمدرّسين في آليّات أخذ القرار أو في صياغة السّياسات الخاصّة بالتّربية والتّعليم بكلّ مراحله. وخَلُصَتْ الورقة إلى أنّ المكانة الاجتماعيّة المتراجعة والأجور المتدنيّة وظروف العمل الصّعبة كلّها عوامل أفقدت مهن التّدريس، ومنها التّدريس في التّعليم العالي، جاذبيّتها لدى الشّباب وجعلت المدرّسين يشتغلون دون التمكن من استعمال كل طاقاتهم، وأنّ هذا الأمر يجعل العديد منهم يغادرون المهنة.
في تونس، في قطاع التّعليم العالي والبحث العلمي، لا يختلف الوضع كثيرا عن التّوصيف الوارد في ورقة المفاهيم المذكورة. فالجميع يعرف، وعلى رأسهم أصحاب القرار السياسي، أنّ تناقص نسب ميزانيّات التّربية والتّعليم من الميزانيّات العامّة للدّولة وما نتج عن ذلك من تراجع ملحوظ للمكانة الاجتماعيّة للجامعييّن وتدهور متواصل لمقدرتهم الشرائيّة، جعل مهنة التّدريس الجامعيّ والبحث العلميّ تفقد أيّ جاذبيّة للشّباب المتعلّم الذي أصبح عازفا عن مواصلة الدّراسة الجامعيّة في مستوى الدكتوراه نتيجة انسداد أبواب الانتداب في التّعليم العالي لسنوات عديدة ثم عودته عودة محتشمة دون المأمول ودون الحاجيات الحقيقيّة لمؤسّسات التّعليم العالي والبحث المعبّر عنها عبر هياكل تسييرها. كما أنّ ظروف ممارسة مهنة التّدريس الجامعيّ والبحث بالنسبة للعاملين بها لم تعد مشجّعة على العطاء والاستقرار فيها نتيجة نقص الموارد البشريّة والماليّة وكل التّعقيدات الإداريّة التي يعيشها الجامعيّون يوميّا.
وقد نتج عن هذا عزوف الكفاءات الجامعيّة عن مخابر البحث والجامعات وعن مؤسّساتهم الجامعيّة بحثا عن حلول فرديّة لمشاغلهم. كما تسبّبت هذه الأوضاع في ظاهرة جديدة نسبيّا وهي هجرة الكفاءات الجامعية التونسيّة نحو بلدان أخرى سواء كانت في الخليج العربي أو أمريكا الشمالية أو أوروبا الغربية وحتّى جنوب شرق آسيا. فقد غادر الجامعات التونسية، في إطار التعاون الفنّي بحثا عن عيش كريم وظروف عمل أفضل، أكثر من ألفي مدرّس تعليم عال (2014 مدرّس حسب أرقام الوكالة التّونسيّة للتّعاون الفني لسبتمبر 2022)، منهم 1811 ينتمون لرتب أستاذ مساعد، وأستاذ محاضر، وأستاذ تعليم عال. ويمثّل هذا العدد نسبة %18.56 من إجمالي المدرّسين الباحثين في هذه الرّتب، أي ما يقارب واحدا من خمسة. ويضاف إلى هذه الأرقام طبعا الجامعيون الذين استقالوا وغادروا البلاد نهائيّا. هؤلاء وأولئك أقدموا على ذلك مضطرّين بعد أن ضاقت بهم السبل من أجل عيش كريم في وطنهم.
وقد كانت الجامعة العامّة للتعليم العالي والبحث العلمي قد قيّمت في بيانها السّنة الفارطة بمناسبة اليوم العالمي للمدرّسين 2021 منظومة التعليم العالي والبحث العلمي على ضوء أربع نقاط أساسيّة واردة في توصيات اليونسكو فيما يخص التعليم العالي، وكانت تباعا: التّعليم العالي باعتباره مرفقا عموميا، ظروف عمل المدرّسين الجامعيين، الحقّ في التفاوض الجماعي، واستقلاليّة الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. وإذا وضعنا منظومتنا الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي على محكّ نفس هذه النقاط، فإنّنا سنرى أنّ الأمور لم تتحسّن هذه السّنة.
ففي باب التعليم العالي مرفقا عموميا، نلاحظ غياب أيّ استراتيجية لإنفاذ ما ورد في تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2018 من حثّ لوزارة التّعليم العالي والبحث العلميّ على ممارسة إشرافها وصلاحيّاتها الرقابيّة على مؤسّسات التّعليم العالي الخاصّة لوقف التجاوزات العديدة والخروقات الكبيرة للنّصوص القانونيّة المنظّمة للتّعليم العالي الخاصّ في تونس. كما نلاحظ تواصل عجز الحكومة عن إيقاف بطريقة رسميّة للانتصاب الفوضويّ وغير القانونيّ المستمرّ منذ ثلاث سنوات لجامعة أجنبيّة على التّراب التونسي. أمّا فيما يخصّ ظروف عمل الجامعيين في تونس، فلعلّ ما ورد من أرقام في الفقرة ما قبل السّابقة دليل واضح على تدهور الأوضاع بشكل مفزع يضع فكرتي المصعد الاجتماعي وكرامة الجامعيّ في خطر وجوديّ.
أمّا فيما يخصّ الحقّ في التّفاوض الجماعيّ، فقد مثّل المنشور عدد 20 الذّي أخضع – لأشهر عديدة – حقّ التّفاوض للقطاعات للموافقة المسبقة لرئاسة الحكومة، صفحة غير مشرّفة لبلاد انخرطت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي في التّفاوض الجماعيّ. الآن وقد وقع تجاوز هذا المنشور بتغيير صياغته، فالأمل ألّا يقع التّراجع عن هذا الحقّ المؤسّس للسّياسة الاجتماعيّة في تونس مرّة أخرى. أمّا فيما يخصّ النقطة الأخيرة وهي استقلاليّة الجامعات ومؤسّسات التعليم العالي، فقد وقع تجاوز التّعطيل الذّي دام لسنوات عديدة لتحوّل الجامعات ومؤسّسات التّعليم العالي من مؤسّسات عموميّة ذات صبغة إداريّة إلى مؤسّسات عموميّة ذات صبغة علميّة وتكنولوجيّة، بعد أن صدرت المراسيم التي تخصّ هذا التحوّل لستّ جامعات عموميّة وتسع مؤسّسات تعليم عال وبحث.
هذا التحوّل عندما سيدخل حيز التّنفيذ في 1 جانفي 2023 سيمكّن مؤسّسات التّعليم العالي والبحث التي انخرطت فيه من جرعة من الاستقلاليّة التّي تحتاجها لكي تلعب أدوارها العلميّة والأكاديميّة والمجتمعيّة الرياديّة المفترضة ومن استقطاب الطّلبة على المستوى القاريّ والدُوليّ بعد أن كبّلتها عقود من ثقافة الجمود والأذون والتّراخيص ومنعتها من التّطور ومنافسة نظيراتها إقليميّا ودوليّا. إلّا أنّ إنجاح هذا التحوّل يقتضي مواكبة لصيقة لوزارة التّعليم العالي والبحث العلميّ، ومتابعة من طرفها وتأطيرها للعمليّة وتوفير أسباب نجاحه الماديّة منها واللوجستيّة والتأهيليّة. وفي الحقيقة لا نرى إلى حدّ الآن أثرا لهذه المواكبة، وكلّ الخوف أن تترك جامعاتنا ومؤسّساتنا الجامعيّة تتخبّط وحيدة في المشاكل الممكنة التي ستظهر خلال هذا التحوّل، دون سند من الوزارة باسم الاستقلاليّة التي ستحوز عليها، فتتحوّل من إمكانيّة إلى نقمة ومن فرصة للتّطور إلى عقوبة للذين تجرّؤوا وخرجوا من بوتقة وأغلال صيغة المؤسّسات العموميّة ذات الصبغة الاداريّة.
هذا الجرد السلبيّ والواقعيّ في نفس الآن، يقتضي من الدّولة التونسيّة أوّلا الاعتراف بالتّدهور الحاصل في منظومتنا الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي وفي مكانة الجامعة والجامعييّن صلبها، وبمسؤوليّتها على وقوعه والتّعبير عن استعدادها لإيقافـه؛ وثانيا اتّخاذ قرارات شجاعة تعيد للجامعة بريقها المفقود وللجامعييّن المكانة التي هم بها جديرون، وتعطي في الوقت نفسه معنى ودلالة لوصف منظومة التّعليم العالي والبحث العلميّ بالقطاع الاستراتيجيّ. إنّ الجامعييّن في تونس لا يَستجْدون منّة ولا عطفا من أحد لأنّهم جُبلوا على الوطنيّة والبذل، ولكنّهم يطالبون بردّة فعل تترجم غيرة الدّولة التونسيّة وخوفها على منظومة التربية والتعليم التّي تبقى الجامعة العموميّة عمادها الرّئيسيّ. وهم أيضا على قناعة راسخة بدور هذه المنظومة المركزيّ في أيّ عمليّة إصلاح وطنيّ يخشى عليها من أن تفرغ من كلّ معنى إذا لم يحظ الجامعيّون بالمكانة الاجتماعية التي يستحقّون. واحتفالية هذه السّنة باليوم العالميّ للمدرّسين تحت شعار «الارتقاء بالتّعليم يبدأ بالمدّرسين» أبلغ دليل على ذلك.
عاش الاتحاد العام التونسي للشغل
حرا مستقلا ومناضلا
الكاتب العام
نزار بن صالح