لا شيء يغير من تركيبة وحركة المشهد, كل شيء يتكرر بنفس الصورة ونفس الأسلوب تقريبا، نفس الخطاب، نفس ردود الأفعال، نفس التحركات شكلا ومضمونا، لقد باتت مألوفة خرجات رئيس الدولة عند انتصاف الليل في كل مرة يعلن فيها عن قرارات جديدة تخص مشروعه أو نزوله إلى الشارع للإلتحام بجمهوره أو استقباله لرئيسة حكومته ووزرائه ليظهر في الصورة وعلى وجهه علامات الحزم والصرامة وهو يسدي إليهم تعليماته وأوامره لتوفير حاجيات المواطنين من المواد الأساسية في السوق ومواصلة الحرب على المحتكرين والمضاربين دون هوادة، مقابل ذلك يتكرر مشهد المعارضة بنفس الخطاب وبنفس الشعارات وبنفس شكل التحركات التي لا تفضي إلى أي نتيجة للاعتراض على الإجراءات التي يتخذها الرئيس.
بالتوازي مع المشهد السياسي المتكرر منذ السنة الفارطة، يتصاعد لهيب الأسعار الذي أحرق القدرة الشرائية للفئات الهشة بالكامل وبدأت نيرانه تطال الطبقات الوسطى وحتّى الطبقات المرفّهة منها، فذلك اللهيب لم ينفع معه شيء لا الزيارات الفجئية التي قام بها لمخازن البطاطا والحديد في نطاق كشف الاحتكار ومقاومته على المباشر ولا المراسيم التي أصدرها ولا التهديدات التي أطلقها أوقفت النزيف، كلّ المواد تضاعف ثمنها أو تثلّث أو تربّع إلى جانب ندرة بعض المواد في السوق، مثل الزيت النباتي والسكر والقهوة والأرز وغيرها.. بات الوضع الغذائي للمواطن ينذر بالخطر وأمام تضارب التفسيرات المقدّمة من السلطة نفسها فإنّ الوضع مرشح لمزيد التدهور، ويصر رئيس الدولة على أنّ أشباح الغرف المظلمة هي من تقف وراء هذه الأزمة الخانقة وانّ موجة الغلاء المشطة مفتعلة بغاية إحداث القلاقل لإفشال خارطة طريقه التي يراها السبيل الوحيد للوصول بالبلاد على برّ الأمان، في حين لا تسايره الحكومة في تفسيره ذلك، وتفسّر من ناحيتها ارتفاع أسعار الكثير من المواد بالاضطرابات الاقتصادية التي أحدثتها الحرب الروسية- الأوكرانية على نطاق العالم بأسره وإلى الخلل في منظومة التوزيع بالبلاد، لكن لا أحد يتطرّق للحلول ممّا يرفع ّ من درجة مخاوف المواطنين في ظلّ الصورة القاتمة التي يقدّمها بعض الخبراء عن الوضع المالي بالبلاد والحديث عن تفاقم العجز المالي في خزينة الدولة والانصراف عن التفكير في الحلول بعيدا عن المؤسسات المالية الدولية .
وتدفّق صور قوارب «الحراقة» على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تشق البحر نحو السواحل الإيطالية بعضها في أجواء احتفالية يضفي على المشهد مسحة من الميلودراما، المشكل ليس في رغبة البعض في الهجرة، فالهجرة المنظمة شكلت إحدى السياسات التي اعتمدتها الدولة التونسية لمجابهة مشكل البطالة منذ الإستقلال، لكن المشكل في نوعية الهجرة بعد إغلاق أروبا لأبوابها، إلى هذه الدّرجة يئس جزء كبير من وطنهم ليقدموا على المخاطرة بحياتهم لبلوغ السواحل الإيطالية في ما يسمّى بقوارب الموت ؟ والمشكل هنا أنّ جمهور «الحراقة» لم يعد مقتصرا على الشباب المهمّش بل بات يشمل أصحاب الشهائد الجامعية و الموظفين وأصحاب الأعمال الصغيرة ومن النخبة الرياضية ومن النساء والقصر وأعداد «الحراقة « خلال السنتين الفارطتين سجلت أرقاما مفزعة كما جاء في تقارير المنتدي الاجتماعي والاقتصادي التونسي، حيث بلغ عدد الواصلين إلى شواطئ إيطاليا سنة 2021 إلى 15671 من بينهم 584 امرأة و655 قاصر بمرافقة و 2076 دون مرافقة وفي 2022 بلغ عدد الواصلين إلى الشواطئ الإيطالية إلى حدود الأسبوع الأوّل من شهر أوت 12356 منهم 540 امرأة و702 قاصر بمرافقة و1401 دون مرافقة، لكن ليس كل الحارقين عرفوا نهاية سعيدة لرحلتهم كهؤلاء ، فلقد بلغت أعداد الموتى والمفقودين لحدود شهر أوت 476. لكن هذه الأعداد قد تكون لا تعكس كلّ الحقية وأنّها أرفع من ذلك بكثير حيث يدور الحديث عن خط جديد للهجرة عبر تركيا ونحو صربيا وأنّ الآلاف من الحراقة التونسيين عالقون على الحدود الصربية الهنغارية ينتظرون الفرصة لاجتياز، والغريب أنّ هذه الظاهرة الخطيرة والتي تعكس شيبه القطيعة بين الدولة وجزء من مواطنيها الذين فقدوا فيها بالكامل تمرّ في شبه صمت فلم نسمع عنها خطبا ولم نرى لا ندوات ولا بلاتوهات ولا بيانات ولا مأتم تقام على الغرقى والمفقودين وكأنّ الدولة تستبطن الرضا عن تلك الظاهرة كحلّ يريحها مؤقتا من عبء لا طاقة لها به في الظرف الراهن.
هذا المواطن الذي لم تمنحه هذه الصائفة الهدنة الصيفية للانقطاع عن همومه اليومية والانصراف لأخذ نصيب من الراحة والاستجمام وفرضت عليه السير على جمر الأحداث والوقائع والتّشققات التي تحدث من تحته ومن حوله، فهل ما زال له الطاقة لمجابهة مقتضيات «عودة» يلفّها الغموض ومحفوفة بشتّى أنواع التّقلّبات