لما خلّفته من أثار رهيبة في تاريخ تلك الأمم ومنها من لازال يعاني من ارتداداتها إلى حدّ اليوم، وقد سميت العشرية الأولى من الثورة الفرنسية بسنوات «الرعب» لما سادها من فوضى وقمع ودمويّة.
وفي تونس كانت سنة 1864 مفصلية في تاريخ البلاد، لما اجتمع فيها من أحداث ومصائب دفعة واحدة على البلاد التي باتت تواجه حينها الإفلاس واجتاحها وباء «بوبرّاك» ، وعقب تمرّد على بن غذاهم في عدد من مناطق البلاد انجرت عنها حملات قمع فظيعة من طرف «عسكر الباي» وقد أطلق الكاتب حسنين بن عمو عن ذلك العام «عنوان عام الفزوع» في رائعته الروائية التي مزج فيها بين الأحداث التاريخية الواقعية في سرد روائي مشوق
فهل تكون هذه السنة 2022 سنة مفصلية أخرى في تاريخ البلاد سنشهد فيها البلاد أفول دولة الاستقلال وقيام دولة النظام القاعدي الذي يبشّر به الرئيس «قيس سعيد « منذ صعوده للرئاسة؟ هل ستكون سنة الإقلاع نحو العلو «الشاهق» كما ذكر الرئيس أو ستكون سنة القروح على وزن الفزوع ؟
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
فلم يكن لا الأتباع ولا الأنصار ولا من ساروا في ركبهم يتصوّرون أنّ الطريق إلى العلو الشاهق مليء بالأشواك والمطبّات، سنة ونيف مرّت على انطلاق ذلك المسار والوضع لم يستقرّ بعد ومازال يغلب عليه الغموض ، فكلّ خطوة تُقطع في ما يسمّي بخارطة الطريق تفتح شرخا جديدا في جسم المجتمع وتثير عاصفة من الجدل تزيد من أعداد المتشككين والرافضين لهذا المسار، لكنّ الرئيس غير مبال بغضب معارضيه ولا بقلق أنصاره، فكلّما ارتفعت أصوات تدعوه للتوقّف قليلا لمنح المتابعين بعض الوقت لاستيعاب ما يقوم به حثّ الخطى أكثر وصعّد من حدّة لهجته إزاء منتقديه ، منذ عهد الزعيم الحبيب بورقيبة ومرورا بحقبة الرئيس بن علي وصولا إلى ما يسمّى «العشرية السوداء لم تشهد البلاد مثل هذا الكم الهائل من المراسيم والإجراءات والقرارات والقوانين، كانت هنالك قرارات تطبخ على نار هادئة لسنوات كي يقع تمريرها، خاصّة إذا كانت تتعلّق بتنقيح فصول في الدستور، لكن الرئيس قيس سعيد اختصر المسافة لتحقيق غرضه، عام واحد بالنسبة إليه كاف لاقتلاع جمهورية وبناء جمهورية جديدة
في الحقيقة من الإجحاف تحميل سنة 2022 وزر كلّ هذه اللّخبطة وتسارع الأحداث، فخلال السداسية الثانية من سنة 2021 تمّ وضع الأسس التي مهّدت للانطلاق في هذا المسار تحت غطاء الدستور، بقبول من أغلب أطياف المجتمع وترحاب شعبي عارم تمّ تفكيك أهمّ مؤسسات الدولة التي لم تبق منها سوى مؤسسة واحدة، أو بالكاد يمكن اعتبارها مؤسسة لأنّها كانت تخضع لسلطة رجل واحد ، فلا نرى فيها غير شخص الرئيس، هو من يشرع وهو من يقرر وهو ينفّذ وأحيانا هو من كان يكتب المراسلات الرسميّة بخطّ يده، وهو من أعطى إشارة الانطلاق لقطار الجمهورية الجديدة.
كانت البداية ب» الاستشارة الوطنية» التي يعتبرها الرئيس اللبنة الأولى لبناء جمهوريته الجديدة ، لم يكن بالنسبة إليه مهمّا ما كان يقال عن المستوى المدرسي لاستبيان الاستشارة ولا عن التّدخّل المباشر للإدارة وتسخير أجهزة الدولة في الحملة لها ولا الكيفيّة التي كان يتمّ بها تشريك المواطنين في الأسواق والفضاءات العامّة ، كلّ شيء كان مباحا لتحقيق أعلى نسبة من المشاركين، لأنّها كانت معركة في ذهن الرئيس وأتباعه عليهم كسبها مهما كانت الوسائل، لذلك أعتبر الرقم الذي لم يتجاوز السبعة في المئة نصرا مبينا بعد ان تحدث الرئيس في الهجومات الإلكترونية الخطيرة التي تعرضت إليها مواقع الاستشارة لإفسادها،
ومباشرة بعدها تم الدخول في إزاحة القوى التي قد تشكّل حجر عثرة أمام تنفيذ الخطوات التي تليها، فكان الهجوم الكاسح على القضاء، بحل المجلس الأعلى للقضاء وتنصيب مجلس جديد في مرحلة أولى وعزل سبعة وخمسن قاضيا وقاضية بمجرّد مرسوم من الرئيس في مرحلة ثانية، كذلك حدث مع هيئة الانتخابات بإبعاد رئيسها وإدماج أعضاء جدد يدينون له بالولاء، كذلك مع اتحاد الفلاحين الذي من المفروض أنّه منظمة مستقلّة تحتكم إلى قانونها الأساسي ونظامها الداخلي ولا تخضع إلى أي سلطة مباشرة من الدولة لم ير حرجا في الطلب من أعضائها إزاحة رئيس منظمتهم وتنصيب رئيس جديد بمساعدة البوليس، وفي لحظة غضب ناقض الرئيس ما قاله الرئيس قبل ثمانية وأربعين ساعة واتخذ قرارا لم يكن في حساباته يحلّ مجلس نواب الشعب وإحالة أكثر من مائة وعشرين نائبا للتحقيق بتهمة التآمر على امن الدولة بسبب عقدهم لجلسة عامّة عن بعد .
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
بعد كلّ تلك الإجراءات ساد الانطباع بأنّ الوضع بات تحت السيطرة والطريق مفتوحة لإتمام بقية المراحل في أحسن الظروف، لكن قامت زوبعة حول كتابة الدستور بعد أن ألقى الرئيس بأشغال لجنة الصادق بلعيد وإبراهيم بودربالة في سلّة المهملات وقدّم دستورا لا يشبه في شيء ما كان يبشّر به العميد بلعيد وأمين محفوظ، ثمّ تبيّن بعد نشر نسخة الرئيس بالرّائد الرسمي تسرّب ستة وأربعين خطأ اعترف بها لكن يبدو أنّ قصّة الأخطاء صارت ملازمة لكل أعمال الهيئات بعد اللخبطة في الإعلان عن نتائج الاستفتاء وإعلان هيئة الانتخابات مما أثار الكثير من الشكوك عن وجود تدليس.
لوكان ابن أبي الضياف موجودا لكتب عن هذا العام قائلا: في الوقت الذي كان فيه الساسة مشغولين بالمراسيم وكتابة الدساتير، كانت العامّة تعاني من الطوابير أمام المخابز للحصول على رغيف خبز وتتنقّل بين الدكاكين بحثا عن مادة الفارينة والسكر وزيت الحاكم التي قل وجودها في السوق، وكانت البلاد تعيش على وقع أخبار الغلاء وشح موارد الدولة وعودة بواخر القمح على أعقابها لعدم قدرة الدولة على سداد ثمن حمولتها، ولشدة الضجر الذي سيطر على النفوس تحوّل الناس للخوض في أخبار المخادع والفضائح وفحش الكلام في المسارح والشجارات على مصادح الإذاعات والصفحات، ذلك ما كان يروّح عنهم قليلا وينسيهم همومهم لبعض الوقت أو ما كانوا يدفعون إليه بفعل فاعل والساحة تغلي كأنّها خليّة نحل ولا شيء غيّر من تشبّث الحاكم وإصراره على عدم تحويل اهتمامه بإقامة جمهوريّته الجديدة مهما جرى في عام القروح.