منبر: حول رأي الرئيس بخصوص الأمة و الجنسية

ارتباك خطير في مفهوم الأمة . يقول أن «مفهومنا للأمة يختلف عن مفهوم الغرب» و لكن أي غرب؟ عرفت أوربا 3 تصورات للأمة ما زالت فاعلة ومؤثرة إلى اليوم .

التصور الفرنسي و يتمثل في إرادة العيش معا مما يجعل الإنتماء للأمة و كأنه استفتاء يومي ، و هناك عناصر لتركيز الإنتماء القومي مثل وحدة الدولة ضد الفدرالية و وحدة القانون المنطبق على مجال الإقليم و العلاقة القانونية البحتة بين المواطن و الدولة و الدورالإدماجي للتعليم و المرافق العمومية. كل القوميات و الثقافات و قد كانت كثيرة انصهرت في الكيان الفرنسي و كونت أمة جديدة .
• التصور الألماني : أصل إثني أو
عرقي واحد:
أخيرا التصور الغالب في وسط أوربا و شرقها و في البلقان . و هو التصور الذي انتشر في ربوع الإمبراطورية العثمانية عند الشعوب الطامحة لاستقلالها من الباب العالي مثل اليونان و العرب والبلغار و غيرهم . الأساس هنا الدين و اللغة ، والدين أهم من اللغة (إذا كان أحدهم لغته الروسية ولكنه ليس أرتدكسيا فهو ليس بروسي وإذا كانت لغته الأم البولونية و هو ليس كاثوليكي فهو ليس بولوني). مع الدين و اللغة العنصر التالث هو الإعتقاد بوجود مرجع تاريخي يتمثل في وجود دولة قائمة و قوية قبل الإلحاق بالإمبراطوريات : الدولة البولونية قبل نهاية القرن الثامن عشر ، لليونانيين دولة الإغريق في العصور القديمة قبل المسيح ، دولة البلغار في القرون الوسطى ، و الحركة الصهيونية و مؤسسوها البارزون من أوربا الشرقية و لهم نفس التصور للأمة سيعتمدون على دولة سليمان وداوود. ستالين عوض الدين بالثقافة (طبعا) و من هنا كان الإهتمام البالغ للسلاف بالثقافة الشعبية التي أصبحت عنصرا للتمايز و للتعويض عن عدم وجود دولة روسية للروسيين بما أن كل الدول السابقة أسسها الفيكينغ السويديون و خصوصا الفنلنديون ، و عاشت هذه الدول مطولا تحت النير المغولي. لم يكن هناك مدعاة للفخر.
هذا التصور هو الذي وصلنا -و هو ما يدافع عنه قيس سعيد- عندما يقول أن الإنتماء للأمة لا يمنح بمرسوم و ذلك ما عناه عندما أشار إلى «مغالطة» منح القومية التي تصبح في منظوره «طورين» . وهي نفس نظرية ستالين الذي يعتبره الشيوعيون «العريف» في شؤون القوميات عندما فرق بين القومية و المواطنة : مثال : الأرمني مواطن سوفياتي و قوميته الأرمنية والأزبكستاني مواطن سوفياتي وقوميته الأزبك». . و «العريف» وضع قنابل موقوتة في كل مكان منها ما انفجر هذا الصيف : ما يسمى أكريني و أكرانيا لا وجود له ، ما دمت تتكلم الروسية (الأكرنية مجرد لهجة) و ديانتك الأرتدوكسية فأنت روسي.

بالطبع تقاطع عند المسلمين مفهوم الأمة حسب تصور وسط و شرق أوربا مع المفهوم القديم للملة الإسلامية و بقي الصراع بين هذين التصورين : الملة بجميع مكوناتها من خليفة و شريعة و غير ذلك أو ما دعا له المصلحون مثل الأفغاني من وحدة للأمة الإسلامية قطعا و قبل كل شئ ولكن ببرلمان و حكومة و بدساتير مكتوبة و حرية نسبية في التشريع و في التصرف في الشأن العام . الأمة فكرة أوربية و الملة هي فكرة المسلمين. تعرف العرب على فكرة الأمة حين ما زالت الفكرة تتمتع بمحتوى ثوري عال ضد نظم الإقطاع و الإستبداد السياسي و قبل صعود النظم الفاشية. في حين أن فكرة الملة ستقترب من النازية عند الإخوان المسلمين بداية من الثلاثينات حيث أصبحت مرادفا للعنصر و استدعت جميع الأفكار حول النقاوة و السيطرة و الإنتشار والعنف المقدس و التحكم في العام و الخاص. وفي الواقع نحن نشهد حربا طاحنة منذ مائة سنة بين دعاة الأمة الإسلامية و دعاة الملة الإسلامية أي بين الأنظمة القائمة التي تبنت في أكثرها إيديولجية النهضة العربية المناهضة لحكم الخلافة العثمانية وما يسمى بـ«الإسلاميين» ـ

ما يستشف من هذا أن الأفق الإيديولجي عند جميع العرب مغلق و لا يسمح إلا بواحدة من هذين التصورين. من حاولوا الخروج اتهموا بالخروج من الملة أي من الإسلام و بالخيانة و بالإنعزالية و … و … إلى حد اليوم ، هناك قانون غير مكتوب يمنع استعمال عبارة «الأمة المصرية» أو «الأمة الجزائرية» أو غيرها. بورقيبة نفسه لم يخرج كوريث شرعي للنهضة العربية عن هذا الإطار وكان يعرف الدولة التونسية ك»دولة مسلمة تقدمية». وقبله عبد العزيز الثعالبي الذي أسس حزبا للأحرار الدستوريين (ليبرالية + دستور) و كتب «الروح التحررية في القرآن» و هو كتاب عجيب لا زال متقدما على زمننا الراهن ، و لكنه يدرج في المادة الأولى من النظام الأساسي للحزب «الذود عن وحدة الأمة الإسلامية». إن هذه الثقافة السياسية لا يمكن أن تنتج إلا الشعبوية و هي لم تنتج فعلا على امتداد بلاد العرب و منذ قرن إلا الشعبوية ، إذا اتخذنا دليلا لتعريف الشعبوية لا التعريف السطحي (من دمغجة وترضية لفظية للشعب) بل بتعريفها التاريخي وهو عدم قبول التناقضات و حماية المجموعة من التناقضات الداخلية. و حتى بورقيبة لم يكن بريئا من الشعبوية إذا ما أخذنا في الإعتبار خطاب و سياسات «الوحدة القومية» (التي أصبحت «الوحدة الوطنية» مع نقلة الجامعة العربية إلى تونس و نظرية محمد مزالى «الأصالة و المعاصرة» و تركيزه على الهوية العربية الإسلامية و على التعريب). لا نجد الجلوس على كرسيين فقط في تونس و أبلغ مثال على ذلك المسيحي ميشال عفلق الذي يقول «اشتراكيتنا هي اشتراكية مؤمنة» و انتهى به الأمر إلى الدخول في الإسلام مما يوحي بأن القومية العربية ليست إلا تنويعة للأمة الإسلامية.
يبدو لي أن آراء قيس سعيد في هذه المسألة لا تتسم بالوضوح و أراه يتأرجح بين الأمة الإسلامية و الملة الإسلامية و بدون فهم عميق لانعكاسات كل منها. في ظاهرها تبدو فكرة «الإسلام دين الأمة» لا دين الدولة مقبولة و لكنها في الواقع تحيل مباشرة إلى الملة. و الواضح أنه لم يفهم الأسس الإيديولوجية التي قامت عليها الحركة الوطنية و الدولة الحديثة بعد الإستقلال. و أراه غير واع بمآزق الفكر عندنا و مآزق من سبقوه في هذه المسائل الخطيرة ، فهو يقول مثلا أنهم يستعملون كلمة جنسية التي جاءت من كلمة جنس «باش فكرة الأمة تغيب». هل معنى هذا في ذهنه أن «اللائكية» البورقيبية أرادت القضاء على

فكرة الأمة الإسلامية ؟ إن كان هو المقصد فهذا مجانب للواقع التاريخي كما بيناه. و أضيف هنا آن عبارة الجنسية ابتدعها بايات العرش الحسيني للخروج من مأزق قاتل واجهوه في الفترة 1830 - 1881.

كان على البايات مواجهة خطرين ماحقين 1- فرنسا على الحدود الغربية بعد احتلالها للجزائر في 1830 و قد تميزت سياستهم بالتوسع بمنح التونسيين جوازات سفر بأعداد كبيرة و بالمنازعة على تبعية القبائل الحدودية 2- الباب العالي الذي بعث فرمانا يصبح بمقتضاه جميع رعايا الإمبراطورة رعايا مباشرين للسلطان لا للبايات أو الدايات ـ فزع الحسينيون للأمرين معا وكان لا بد من ردة فعل : بعثوا للباب العالي أحمد ابن أبي ضياف للدفاع عن الخصوصية التونسية باسم «العادات و التقاليد» في البلاد ، و سنوا قانونا لجوازات السفر و أحدثوا لأول مرة إدارة لهذا الغرض ـ و بخصوص الجنسية أصدروا قانونا يذكر العبارة لأول مرة في تونس. لا يمكن تأويل هذه العبارة إلا في إطار هذا الواقع المتناقض و لذلك لا يمكن فهمها إلا كمرادفة لعبارة صنف أو نوع (catégorie) للحفاظ على الإنتماء السابق للملة و للخليفة في إسطنبول.
بدون مزيد من الإطالة أتمنى أن يأتي جيل يخرج التوانسة من تعريفهم كصنف و يفتح الباب أخيرا لمطابقة الهوية و المواطنة. بدون هذا ستكون كل المكتسبات الديمقراطية هشة و قابلة للرجوع فيها.

بقلم: سامي عبد الرحمان
قاضي متقاعد و عضو سابق بالمجلس 
الأعلى للقضاء

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115