ويكاد يقتصر اهتمامنا بالقضايا الدولية عندما نكون معنيين بطريقة مباشرة بتداعياتها وانعكاساتها .فمثالا لم نعط اهتماما كبيرا لصندوق النقد الدولي وسياساته واختياراته إلا عندما أصبح الاتفاق معه قارب الخلاص حسب الكثيرين للازمة المالية الحادة التي تمر بها بلادنا .
كما أن اهتمامانا بالحرب في أوكرانيا لم يكن لفهم التحولات الكبرى التي يعيشها العالم بقدر ما كان نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار النفط والقمح والانعكاسات الكبيرة التي كانت لها توازناتها المالية وعلى تعميق جراحنا .
واليوم ونحن نعيش على وقع أزمتنا الاقتصادية والمالية لم نحاول أن نضعها في إطار الأزمة العامة التي يعيشها الجنوب والبلدان النامية والتي أصبحت تهدد استقرار الاقتصاد العالمي.وقد ذهبت عديد المؤسسات العالمية ووكالات الترقيم وعدد من المحللين إلى أن الأزمة القادمة من الجنوب قد تكون الخطر الجديد الذي يهدد العولمة وقد تكون وراء انهيار جديد وأزمة عالمية إن لم نتمكن من إيقافها .
والسؤال له انعكاسات مباشرة على بلادنا. فإلى جانب الأزمة المالية الخطيرة التي تتخبط فيها منذ سنوات فان الوضع العالمي ستكون له انعكاسات كبيرة على بلادنا ولن يساعدنا في الخروج من هذه الصعوبات .وكما يتطلب برنامج الإنقاذ الاقتصادي تحديد السياسات والإصلاحات لرفع التحديات الداخلية فانه لابد لنا كذلك من اخذ العوامل الخارجية بعين الاعتبار والحد من مخاطر الانهيار الجديد للعولمة على بلادنا .
المخاطر القادمة اليوم من الجنوب والبلدان النامية بشكل عام للعولمة ليست الأولى بل عرف الاقتصاد العالمي في عديد المناسبات ظهور التحديات والتي كادت أن تقوض ركائزه.
وقبل تقديم بعض الأمثلة عن المخاطر القادمة من البلدان النامية لابد أن نشير إلى أنها لعبت دورا أساسيا في العولمة في السنوات الأخيرة فقد ساهمت ه البلدان وخاصة الصاعدة (les payes émergents) منها مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل والأرجنتين وإفريقيا الجنوبية وغيرها في الطفرة التي عرفها العالم في بداية القرن حيث عرفت اغلب هده البلدان مستويات نمو برقمين .وقد استفادت اغلب البلدان النامية من هذه العولمة حيث تمكنت من تطوير صادراتها وتنويع نسجيها الاقتصادي والصناعي.كما كان لنهضة التنمية سريعة انعكاسات مهمة على المستوى الاجتماعي حيث سامت في إخراج الملايين من سكان الجنوب من بوتقة الفقر والحاجة .
وقد مكنت العولمة الجنوب والبلدان من أن تصبح قوى اقتصادية يحسب لها ألف حساب وتصبح منافسة للبلدان الرأسمالية المتقدمة .وكانت هذه الديناميكية وراء تكوين مجموعة العشرين ودعوة البلدان النامية لتكون لاعبا مهما في الحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي .
ولئن لعبت البلدان النامية دورا مهما في نمو الاقتصاد وتطوره في السنوات الأخيرة إلا أنها لم تنجح في فرض الإصلاحات التي طالبت بها مند عقود والتي تسعى إلى فتح أكثر المؤسسات والهياكل العالمية لتدعيم حضورها وبناء أسس نمو عادل ومستديم .
إلا أن هده المطالب ومحاولات الإصلاح لم تنجح في فرض تغيير أسس العولمة مما جعلها تتميز بالهشاشة وعدم الاستقرار .
وقد أتت الهشاشة من مصادر مختلفة ومن ضمنها البلدان النامية في مناسبات مختلفة .الأولى تعود إلى أربعين سنة خلت بالتحديد يوم 12 أوت 1982 عندما أعلن المكسيك عجزه عن تسديد خدمة دينه ليعطي بذلك نقطة الانطلاق لأولى الأزمات المالية للعولمة .وستكون لازمة المديونية التي ستهز أركان كل بلدان الجنوب انعكاسات خطيرة على الاقتصاد العالمي حيث أن اغلب البنوك الكبرى في العالم كانت معرضة لمخاطر كبرى باعتبار دعم القروض التي قدمتها للبلدان النامية . وبعد أشهر من المفاوضات تمكنت البلدان المتقدمة من فرض حل لازمة المديونية مكنها من حماية بنوكها من الانهيار وفرض على البلدان النامية برامج تقشفية من اتفاق واشنطن وبرامج التعديل الهيكلي التي فرضتها مؤسسات صندوق النقد الدولي.
أما الأزمة الثانية التي ستنطلق من الجنوب وستهدد العولمة والنظام الدولي ستبدأ سنة 1997 مع انهيار عديد البلدان الأسيوية الصاعدة مثل اندونيسيا وتايلندا وماليزيا لتمتد إلى روسيا وبعض البلدان اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل .وستكون هده الأزمة وراء زعزعة أسواق الصرف العالمية والتي كادت ان تؤدي إلى انهيار النظام العالمي .
كانت العولمة وتطورها في العقود الأخيرة وراء تنامي هشاشة وعدم استقرار كبير للاقتصاد العالمي. وتعددت مصادر هذه الهشاشة من الأسواق المالية في البلدان المتقدمة إلى الحرب التجارية بين البلدان المتقدمة الى الأزمات القادمة من الجنوب . وتشكل اليوم الأزمة الكبيرة للبلدان النامية احد أهم المخاطر التي قد تقود تقويض استقرا العولمة .
• الانكماش والتضخم والدين الثالوث المخيف
لقد تجسدت أزمات البلدان النامية في ثلاثة مظاهر أساسية: المسألة الأولى هي التراجع الكبير في مستويات النمو حسب التقديرات المتتالية لصندوق النقد الدولي للسنة الحالية .وقد أشارت توقعات المؤسسة الدولية والصادرة بمناسبة اجتماعات الربيع والصادرة منذ أيام قليلة أن معدل النمو سينحدر من %6.8 سنة 2021 إلى %3.8 خلال السنة الحالية. وسيكون هدا الهبوط في النمو قويا في آسيا حيث سيتراجع من %7.5 خلال السنة المنقضية إلى %5.4 السنة الحالية .وستعرف الصين أهم هبوط في مستوى النمو والدي قدره الصندوق بالنصف حيث سيمر النمو من %8.7 سنة 2021 إلى %4.4 خلال السنة الحالية .
إلى جانب البلدان الآسيوية ستعرف بلدان أمريكا اللاتينية كذلك تراجعا هاما في النمو خلال نفس الفترة حيث سيتراجع معدل النمو %6.8خلال السنة المنقضية إلى %2.5 خلال السنة الحالية والى تراجع النمو في أغلب البلدان النامية وبصفة خاصة في البلدان الصاعدة كما عرف الجنوب ارتفاعا كبيرا في التضخم في الأشهر الأخيرة حيث عرف معدل الأسعار ارتفاعا خلال السنة الحالية بلغ %5.2 في البلدان النامية. الا أن هدا المعدل يخفي اختلافات كبرى بين البلدان النامية حيث شهدت عديد البلدان ارتفاعا مخيفا في التضخم.فقد بلغت مستويات التضخم على سبيل المثال في تركيا في الأسابيع الأخيرة %54.4 بينما وصل ارتفاع الأسعار في الأرجنتين %50 والبرازيل %10 في الأشهر الأخيرة.
ولإتمام هذا الثالوث المخيف الذي يهيمن على البلدان النامية لابد من إضافة المديونية والتنامي الكبير الذي عرفته خلال السنوات الأخيرة والذي وضع عددا كبيرا من هذه البلدان على حافة الإفلاس كما هو شأن لبنان من مدة. وهذه الأزمة تشكل مثابة القنبلة الموقوتة والتي يمكن ان تنفجر في أي لحظة في العديد من البلدان مما سيكون له تأثير كبير على الاقتصاد العالمي وقد يقود الى انفجار جديد للعولمة .
• في أسباب أزمات الجنوب
بدأت مصاعب البلدان النامية مع جائحة الكوفيد حيث شهدت تراجعا كبيرا للنمو سنة 2020 بعد سنوات من الطفرة .فتراجعت صادراتها خلال تلك السنة والاستثمارات بصفة كبيرة في اغلب البلدان .ولئن تمكنت البلدان المتقدمة من مجابهة هذه الأزمة من خلال التدخل الكبير للدول وللبنوك المركزية فان البلدان النامية لا تمتلك هدا الهامش المالي والإمكانيات للوقوف أمام الانعكاسات الاقتصادية للجائحة .كما ان التأخير الكبير للحصول على التلاقيح جعل انعكاسات الجائحة الاقتصادية تتواصل خلال سنة 2021.
ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد من حدة مصاعب البلدان النامية على عديد المستويات .فقد نتج عن هده الحرب ارتفاع كبير لأسعار المواد الأولية والفلاحية وخاصة الحبوب .فأوكرانيا وروسيا تنتجان %70 من الانتاج العالمي للحبوب .وقد نتج عن تراجع صادرتاهما للسوق العالمية ارتفاع كبير للأسعار العالمية والدي وصل إلى مستوى ارتفاع بـ%34 خلال هذه السنة مقارنة بالسنة المنقضية .
وساهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية بصفة خاصة والحبوب بصفة خاصة في ظهور وتنامي شبح المجاعة في البلدان النامية .وقد قدرت منظمة التغذية العالمية تنامي عدد السكان الذي يعانون من المجاعة سنة 2019 بـ46 مليون نسمة في إفريقيا و57 مليون نسمة في آسيا و14 مليون نسمة في امريكا اللاتينية .ونتج عن هذه الأزمة الغذائية تنامي الفقر في العالم حيث انضاف قرابة 77 مليون نسمة إلى جموع السكان الدين يعانون من الفقر المدقع .
كما كانت للحرب في أوكرانيا انعكاسات كبيرة وخطيرة على مستوى الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي .فروسيا هي اكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم وثاني اكبر مصدر للنفط.وكان للمقاطعة الني نفذتها البلدان المتقدمة انعكاسات كبيرة وخطيرة على الأسعار العالمية حيث بلغ معدل الارتفاع %60 هده السنة مقارنة بالسنة المنصرمة كانت لهده التطورات الاقتصادية العالمية مند سنتين انعكاسات كبيرة وخطيرة على اغلب البلدان النامية ولتضع عددا كبيرا منها عل حافة الانهيار المالي.
• شبح الانهيار المالي للجنوب
إن تراكم الصعوبات الاقتصادية والمالية خلال السنوات الأخيرة ستكون له انعكاسات كبيرة عل اغلب البلدان النامية على ثلاث مستويات على الأقل .يهم المستوى الأول توازنات الماليات العمومية حيث ستكون للتطور الكبير للأسعار العالمية انعكاسات كبيرة على مصاريف اغلب الدول النامية لتوفير حاجياها من المواد الغذائية والغاز الطبيعي والنفط .
كما سيكون لهذه التطورات كذلك انعكاسات خطيرة على الحسابات الجارية للبلدان حيث ستسعى الى استعمال احتياطات العملات الأجنبية ومدخراتها في هدا المجال لتوفير حاجياتها من المواد الأولية ولمجابهة الارتفاع الكبير في أسعارها في السوق العالمية .
ويمكن لنا في هذا المجال إضافة عامل ثالث لعب دورا كبيرا في انخرام التوزانات المالية الكبرى للبلدان النامية .ويخص هدا العامل قرار البلدان المتقدمة الترفيع في من نسب الفائدة لمجابهة التضخم عندها .
وكانت لهدا التمشي الجديد للسياسات النقدية انعكاسات كبيرة على البلدان النامية حيث ساهمت في ارتفاع تكلفة الدين وسرعت من خروج الاستثمارات الأجنبية .
لعبت هده التطورات الخطيرة في السنوات الأخيرة دورا سلبيا في البلدان النامية لتضع هده البلدان على حافة الانهيار المالي مع انخرام ديمومة المديونية .
• في الحلول للخروج من شبح إفلاس الجنوب:
إن المخاطر التي تمر بها البلدان النامية تشكل تهديد صريحا للاقتصاد العالمي وقد تقود إلى أزمة تضع العولمة على حافة الانهيار. ولئن قامت المنظومة الدولية باخذ بعض القرارات ومن ضمنها الترفيع في حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد والتي مكنت البلدان النامية من التخفيض من الضغط المالي فإن هده القرارات تبقى غير كافية لمواجهة الأزمة .
إن مواجهة هذه الأزمة تتطلب من المنظومة الدولية اخذ قرارات اكثر جرأة من اجل دعم البلدان النامية في مواجهة انخرام توازناتها المالية .وفي رأيي وبدون الدعوة الى اصلاحات عميقة في النظام المالي العالمي قد تاخد الكثير من الوقت لان المؤسسات المالية العالمية لها من الآليات ما يمكنها اليوم من دعم ومساندة البلدان النامية وحماية توازناتها المالية الكبرى .
وسنشير في هذا المجال إلى بعض المقترحات التي يمكن لها ان تساهم في التخفيض من الضغط والعبء المالي لبلدان النامية في هده الظروف الصعبة .
ولعل أول مقترح يهم ضرورة أن تتحلى المؤسسات الدولية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي والبنوك الدولية بالمرونة الكبيرة لمساعدة البلدان النامية في الخروج من هذه الأزمات .فمواصلة تطبيق السياسات التقشفية والتمسك بالمقاييس والقواعد التقليدية لن يزيد الوضع الا تعقيدا وتأزما .فالمؤسسات المالية العالمية مدعوة في هده الظروف الى الخروج من القوالب الجاهزة والسياسات التقليدية التي اثبتت فشلها والعمل على تطبيق براقماتي هدفها دعم البلدان النامية والوقوف الى جانبها .
ويهم المقترح الثاني ضرورة دعم البلدان النامية في تعبئة موارد مالية اضافية لدعم توازناتها المالية وهنا يمكن الإشارة الى إمكانية الترفيع من جديد في حقوق السحب الخاصة عند صندوق النقد الدولي وتمكين البلدان النامية من استعمال حقوق السحب التي لم تستعملها البلدان المتقدمة .
ويخص المقترح الثالث مسالة المديونية وضرورة التخفيف من عبئها من خلال تعليق دفع خدمة الدين لمدة تتراوح من 2 إلى 5 سنوات بالنسبة للبلدان التي فقدت شروط استدامة الدين .
عندما توجه احد الصحفيين بالسؤال مند اربعين سنة إلى وزير المالية المكسيكي اثر اندلاع ازمة المديونية وإعلان إفلاسه وعما ستقوم به حكومته لمواجهة هده الأزمة أجابه بشيء من السخرية ان الأزمة المكسيكية لم تعد ازمة وطنية بل أصبحت مشكلة العالم باكمله .ولعمرى ما أشبه اليوم بالبارحة فقد وصلت أزمة البلدان النامية لمستوى من الخطورة لتصبح قضية العولمة باعتبارها تشكل تهديدا جديا للنظام العالمي. وهذا الوضع يتطلب حلولا أكثر جرأة وجدية لمواجهة ازمات الجنوب والبلدان النامية .
• خياراتنا أمام الأزمات العالمية
تنضاف الأزمة العالمية وجملة تداعياتها الى الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها بلادنا مند سنوات .ولابد لنا من التعاطي مع هده الأزمة وتحديد خيارات جديدة على ثلاث مستويات على الأقل..
ويهم المستوى الأول توازناتنا المالية وضرورة العمل على إيقاف انخرامها وتدهورها للحد من هشاشة الاقتصاد الوطني .
أما المستوى الثاني فيخص التعاون مع شركائنا في ما يهم تخفيض الضغط على توازناتنا المالية من خلال تعبئة موارد مالية إضافية وهنا لابد من مواصلة المفاوضات التي انطلقنا فيها مند مدة مع بعض شركائنا من البلدان المتقدمة من اجل استعمال بعض حقوق السحب الموجودة لديها عند صندوق النقد الدولي .كما يمكن لنا مواصلة النقاشات مع بعض البلدان الشقيقة حول دعم الميزانية واحتياطي العملة الأجنبية عند البنك المركزي. وفي نفس المجال يمكن لنا كذلك التفاوض مع البلدان الصديقة والمؤسسات المالية المتعددة الأطراف لإمكانية تعليق خدمة الدين وإعطائنا مهلة تساعدنا في التخفيف من الضغوطات على
توازناتنا المالية .
أما المجال الثالث فيهم التسريع في التقدم في بناء السيادة الوطنية في بعض القطاعات الأساسية مثل الطاقة والفلاحة لتفادي الانعكاسات السلبية للأسواق العالمية وتذبذب الأسعار العالمية.
تمر البلدان النامية اليوم بأزمة مالية اقتصادية خانقة قد تقود إلى انهيار جديد للعولمة .هده الأزمة تتطلب حلولا عاجلة لإيقاف تداعياتها الوخيمة على لاستقرار العالمي .
كما ان الأزمة العالمية تدعونا ى الى اخراج رأسنا من الرمل والاهتمام بالقضايا الدولية واخدها بعين الاعتبار في رسم سياستانا وخيارتنا .