كما أني غير سعيدة وأحمل قناعا مجتمعيا بابتسامة عريضة، كما أني أعنَف كل يوم حتى دون أن أدري، أتلقى اللكمات من كل جانب، لا أنتبه لها إلا وجسدي محاصر بأوجاعه المتفرّقة المتنوّعة..
لا أتحدّث عن لكمات تحقيرنا نحن النساء، لكمات الممارسات السلطوية من خلال كل ما يحمل الخيال والمخيال الجمعي وكل ما يُبني عليه من صورة أو سلوك، ولا أتحدث فقط عن لكمات تتربع على ميكانزمات إرثنا الجمعي..
أتحدّث عن لكمات مرتدة مباغتة من كل حدب وصوب، الزيادات المتتالية في المحروقات، في المواد الأساسية، لكمات الفواتير والضرائب التي لا تنتهي، الإيجار لم يبق إلا الهواء كي تتم فوترته في تونس..! الكل يلكم الكل، حتى الدينار أوشك على الانهيار من لكمات الدولار والأورو والروبل أيضا، حتى أنّ رصاصة تخرج من أوكرانيا تستقرّ في عظم تونس مباشرة.
كما أنّ عدد البؤساء تزايد بشكل يثير القلق، وصارت مشاهد البؤس مشاهد عادية، رحل الجميع بالطائرة مهاجرا/ة أو خلسة في البحر، الكل يبحث عن أحلامه/ا، وكأنّنا في حالة صدمة دائمة، أو إحباط، أو لعلّه عدم استيعاب لسياسة الأمر الواقع التي وجدنا أنفسنا فيها، لا أستطيع أن أستوعب النسق السريع للعالم اليوم ، أحيانا أشعر أنّه يتقدّم بخطوات انتحارية إلى مستقبل يحمل كل الاحتمالات المجنونة..
إلي اليوم مازالت شوارع البلاد على حالها، ترفض أن تكون بلا أدران، أوساخ في كل مكان، حتى الشارع الرمز، شارع الحبيب بورقية أو شارع 14 جانفي في قلب العاصمة، أصبح مثل أزقته الجانبية متسخا ومظلما. كما أنّه معسكر ومحاصر بالأسلاك الشائكة.. وأصبح أكثر حزنا من ذي قبل، ربما يتشبّه بساكنيه.
مشاهد الصفوف أمام المخابز عادية للغاية، مشاهد تزايد المشردين والمشردات، عادية للغاية، كشّر الجوع عن أنيابه بشكل جلي ومازالت بقية المشاهد تُحبك على أنغام السريالية وهزّات العبثية التي تعيشها تونس اليوم.
رئيسنا المفدى يتوعّد بعقاب من يعبث بقوتنا وأمننا، كما أنه بصدد إعداد جمهورية ثالثة، أو جماهيرية أو لا أعرف ماذا سيسميها؟ كما أنه وضع العديد من اللجان لصياغة دستور ينظم عيشنا المشترك، لا أعرف ما هو المشترك تحديدا؟ فرؤيتنا لمستقبلنا تختلف، وتمثلنا للحقوق والحريات تختلف، ولا أنسى أنّ رئيسنا المفدى يتحاشى كلمة «المساواة» ويفضّل كلمة «العدل»، أتذكر مواقفه حول حقوق النساء المنقوصة أصلا في تونس، باختصار مواقف ترفض المساواة وتضع عليها نقابا لحجبها.. من يملك حقوقنا حتى يمنّها علينا؟
أنا مواطنة تونسية لم يعد لي الحق في تقرير مصيري. ولا أعرف تحديدا ما هو المشترك بيننا حتى نصنع عقدا مجتمعيا نلتزم بناموسه وقانونه؟ ولماذا أعرف فالرئيس يعرف وسيريحنا من عناء البحث عن هذا المشترك!
ما الذي يربط بيني وبين التونسيين/ات حقيقة؟ علم ؟ دولة تتعكّز على المجهول؟ إرث حضاري وثقافي وسرديات وملاحم ورموز وتواريخ، إلخ إلخ، لعلّ أخرها الفضاء المشترك، هذه الرقعة الجغرافية التي تجمعنا على كل اختلافاتنا، أحببنا أم كرهنا ذلك.. من يملك الوطن؟ إنه يلفظنا كل يوم وبكل مرسوم وقرار.. وطن قاطع التنوع والتعدد والاختلاف وركل الديمقراطية واحتقر النخب وخبأ ظرفا قيل إنه مسموم!.
لا أستحي إن قلت أنّي تصالحت مع العلم التونسي عند ثورة 14 جانفي 2011، قبل ذلك الزمن، كان العلم يعني الرئيس بن علي لا غير، لا يتمثّل هذا العلم إلا في صورة الواحد الأحد في هذا البلد.. الكثير من أصدقائي قاسموني هذا الإحساس.. لم يكن العلم يعني لي شيئا يذكر، ولا «دولة القانون والمؤسسات»، هذه العبارة التي تتكرر كثيرا في نشرات الأخبار وخطابات بن علي، الدولة دولته والقانون قانونه والمؤسسات كذلك.. ربما في المناسبات الرياضية الدولية، أشعر بحماس عند رؤية العلم متوجا، لا أعرف إن كان فخرا؟ في الثورة تغيّر كل شيء، أصبحنا نحن الراية، نحن أي، كل من امن وقتها بالحرية وببلد أفضل.. بالمناسبة كنت من «الثورجوت» وقتها، وهي كلمة ابتدعت في تونس تعني الاستهزاء ممن يصفون أنفسهم بالثوريين والثوريات..
مؤخرا عندما أرى العلم تتسلّل إلى عيوني انعكاسات ضوء باهتة، كأني في بعد آخر يتطابق مع بعد زمن بن علي وأحاسيسه، ما يمكن أن تولّده تمثلات الاستبداد فينا وفي مشاعرنا وسلوكياتنا..
في تونس لا يوجد شأن عام وآخر خاص، صارت السوداوية سمة الجميع، والكل ينتظر حلا من الفضاء ورحمة تتلقفنا من سيدي محرز والسيدة المنوبية.. لعلّها تأتي من أم الزين الجمالية، لا أعلم! ربما سيدي منصور (لقد تورطت في ذكر الأولياء الصالحين، فليسامحني مريدو ومريدات أولياء الله جميعا في أي رقعة تونسية، ولتسامحني تمثلاتهم الثقافية لأوليائهم).
أتساءل كل يوم، الأسئلة ذاتها، ما الغاية من كل هذا؟ لماذا أقوم في الصباح لأركض ركض البعير لمجرد دفع الفواتير؟ وما الغاية من حياتنا أصلا؟
بالمناسبة أستطيع أن أجزم أنّ التونسيات والتونسيون، أغلبهم/هن يعيشون/ن أزمة وجودية جماعية منقطعة النظير، ويمكن أن أضيف على هذه الأزمة كلمتي جماهيرية شعبوية.. إنها أزمة المهد واللحد. غير أنّ رئيسنا المفدى لا يعترف بالأزمات ويقول أنّ هنالك من يفتعلها. اللهم تول مفتعل الأزمات لنرتاح ويرتاح الرئيس، حتى ينظر إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بعينه التي ترى ما لا نرى، ترى خاصة من القاعدة حتى الهرم حتى تهبّ اللجان، وتهب الحشود الشعبية وعلى أعناقها عمداء كليات الحقوق فتزدهر الشركات الأهلية وترفرف الراية الوطنية ونحيا بالأمن والآمان!
كأن تونس تلحّفت برداء العدمية والفوضوية والماضوية، ولفظت الأفكار الحرّة والرأي الحر وعادت الكل، الصحافيين/ت والنقابيين/ت والعشّاق/ات.. (تتساءل/ين ما محلّ كلمة العشاق هنا؟ ما دخلك؟ نحن في ما بعد الحداثة، ولهذا تبعاته)..
يجب أن أؤكد هنا أن رئيسنا يحب كثيرا الصحافة والصحافيين/ت وابتدع مفهوما أراه مسليا حول « التفكير قبل حرية التعبير» ! كم أنت رائع يا أنشتاين عندما برهنت على صحة الثقوب السوداء.. !
حقيقة لا أحد يستطيع أن يرى أبعد من كفه في تونس، لا أحد يملك الإجابة، ولا أحد يستطيع أن يجيب عن سؤال: تونس إلى أين؟ إلى أين نمضي؟ فالمستقبل قاتم وخواء الأمعاء بدأ يزكم الأنوف بأكثر حدّة.. الكل مرتبط بالكل والأزمة تغذي الأزمة..
أخشى أن يتحوّل الوطن، أو ما نرسمه في أذهاننا وطنا، إلى مجرّد مقابر جماعية لجثث متحرّكة تفوح منها رائحة الجوع والخنوع.. ولا أنسى الخواء الفكري والروحي.. أخشى أن يختفي الأمل وتغادرنا الأحلام إن لم تغادرنا فعلا.