خفايا ومرايا: الآخرون أو الأموات الأحياء

الآخرون هو عنوان لشريط سينمائي للمخرج « ألخندرو أمينبار» ، وهو من صنف أفلام الخوف و قد شهد نجاحا باهرا حين خرج لدور العرض سنة 2001

، من بين أسباب نجاحه هو انّ سيناريو ذلك الفيلم كان مختلفا تماما عن السيناريوهات التقليدية مثل تلك الأفلام ، حيث جعل الأموات هم الذين يعيشون حالة الرّعب بسبب اختراق الأحياء لعالمهم ، وقوّة الشّريط تكمن في أنّ المشاهدين لم يتفطّنوا للخدعة التي أوقعهم فيها المخرج إلاّ في نهاية الشريط
وهناك العديد مثل هذه الحكايات في الحياة الواقعية، حيث أنّ البعض يظنّون أنفسهم أحياء فقط لأنّهم يمشون ويتكلّمون ويأكلون ويشربون مثلهم مثل باقي الأحياء، في حين أنّهم فارقوا الحياة معنويا وانتقلوا إلى عالم لا يربطه أي شيء بهموم ومشاغل العالم الحقيقي، والذين لا يملكون التّدخّل فيه إلاّ لزرع الشّك والرّعب في ثقافة الموت.

فإثر استشهاد الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة خرجت علينا جحافل من الأشباح، والغريب في الأمر يتقمّص هؤلاء صفة المدوّنين و» العلماء وشخصيات رمزية ويتحكّمون في عشرات المواقع والصفحات الإلكترونيّة ولهم جمهور واسع يتابعهم ويتأثر بهم من المحيط إلى الخليج .
وفي الوقت كانت فيه أصوات الإدانة والغضب ترتفع في كامل الأقطار العربية وفي العالم ضد الهمجية الصهيونية يدخلون هم على الخط مع الشهيدة والشعب الفلسطيني بإثارة جدل لا يمكن إلاّ أن يزيد في زرع بذور الفتنة والفرقة بين الشعوب وذلك حول جواز الترحّم على الشهيدة ، والمسيء أكثر هو أنّهم نزلوا بكلّ ثقلهم باستعمال الفقه والأحاديث والفتاوي لإثبات أنّ الترحّم على شيرين أبو عاقلة مخالف لتعاليم الدين الإسلامي ويعتبر حراما، ولم يراعوا أنّ تلك المرأة فلسطينية مقدسية أب على جد وتنطق بلسان عربي فصيح، ولا كيف سقطت في ساحة الشرف وهي تؤدّي واجبها في الكشف للعالم صوتا وصورة عن جرائم ذلك العدو الغاصب، كلّ ما همّهم هو أن يترحّم مسلمون على أخت لهم في الوطن وفي النّضال من أجل تحريره ويعتبرون ذلك من الكبائر، إنّ هؤلاء لا يكفي أنّهم يضعون ستارا بينهم وبي بقية المجتمع ، إنّهم يسعون إلى العودة إلى زمن الحروب الدينية وضرب مبادئ التعايش السلمي داخل المجتمع الواحد ونسف الروابط الوطنية، هذا الجدل الذي يتكرّر كلّما واجهت المجتمعات العربية إشكاليات كبرى يعكس إلى حدّ بعيد عقدة التّعطّل الحضاري التي منعت إلى حدّ الآن هذه الأوطان من تجديد فكرها والتّخلّص من المفاهيم البالية في ثقافتها وربط جسور تواصل مع الحضارات الإنسانية الأخرى للاستفادة من ثقافتها ، ،

والمشكل لا يقتصر على هؤلاء الذين يعيشون في عالمهم المتكلّس بل إن هنالك فئات جنيسة لهم تنتمي إلى عالم الخرافة والشّعوذة ، فقصّة المتحيّل « بلقاسم « الذي يكاد يتحوّل إلى أسطورة لقيت قبولا واسعا في المجتمع لأنّها تحرّك الغرائز الدّفينة والمتخفّية وراء قناع حداثي رهيف ، بسرعة قلبت تلك الحكاية صورة المرأة من مصدر الفخر واعتزاز تونسي إلى صورة الضحية والفريسة السهلة الوقوع بين براثن المتحيلين والمشعوذين وغير القادرة على حماية نفسها ، والغريب ليس في تداول تلك الحكاية والتّندّر بها بل العيب في سهولة تصديق تفاصيل مهمّة منها لا يمكن أن تكون إلاّ من نسج لخيال ، فكيف يمكن لعقل سليم أن يصدّق قدرة رجل واحد على مضاجعة تسع مائة امرأة لأكثر من عشرة مرات لكلّ واحدة منهنّ على امتداد بضع سنوات فقط ، حتّى في الأسطورة الشّرقية لم تتحدّث في أي واحدة زمن السلاطين والحريم عن رجل ضاجع ذلك العدد من النّساء، حتّى شهريار رمز الشّغف بالنّساء وأكثر واحد ممحون بقهرهنّ لم يبلغ ذلك بما أنّ شهرزاد استحوذت عليه لألف ليلة وليلة وأنجت بني جنسها من بطشه ووحشيته الجنسية،

إذن كيف يا ترى لمجتمع كان الأوّل في محيطه الذي احتضن صدور مجلّة للأحوال الشخصية الذي يقرّ للمرأة بحقوق لا تنعم بها مثيلتها في بعض البلدان الأوربية في ذلك الوقت وتقدّم في رواية مهوّلة في صورة كائن ساذج ووعاء جنسي؟ كيف للنخب أن تتراخى أمام هذا الإغراق للمشهد الإعلامي بمثل هذه الخرافات التي تطعن في مكتسبات المجتمع التي تحصّل عليها عبر معارك عسيرة ومضنية ،.

قد لا يكون هنالك رابط مباشر بين تزامن ذلك الجدل وانتشار تلك الحكايات وبين تفاقم الأزمة الاجتماعية والسياسية بالبلاد، لكن محتمل جدّا بانّ هنالك من يسعى لاستغلالها عبر نشرها على أوسع نطاق لتلهية الرأي العام عن مشاكله الحارقة، فاستغلال تلك الظّواهر الغريبة ليس بالأمر المستحدث في تاريخ البلاد فالدولة نفسها أحيانا تجد فيها «عصا موسى» للخروج من عنق الزجاجة ، ففي أواخر الستينات وعندما احتدّت أزمة التعاضد وبدأت بوادر الغضب الشّعبي تعمّ البلاد شاع خبر امرأة تسمّى « مبروكة « تمتلك بركات مثل بركات المسيح في شفاء « العميان « والمرضي ، والغريب في الأمر أنّه في ذلك الزّمن بنى الزّعيم الحبيب بورقيبة سياسته على مقاومة الشّعوذة ومنع طقوسها وملاحقة محترفيها ، إلاّ أنّه وقع الصّمت على تلك المرأة وعلى نشاطها الذي كانت تمارسه علانيّة وقد اتّخذت من أحد الجبال مقرّا لها ويأتيها الناس من كلّ حدب وصوب لينصبوا الخيام حولها مثل الحجيج وينتظروا دورهم لأيّام ، ثمّ اختفت فجأة بعد نهاية أزمة التّعاضد ولم يعد هنالك أيّ حديث عنها.
أموات أليخاندرو أمينار في نهايته اكتشفوا موتهم بعد أن جعلهم ينبضون حياة لأكثر من ساعتين ، لكن من يعيدنا نحن لعالم الأحياء؟

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115