أولى هذه الانتكاسات الاقتصادية الكبرى بعد تطور العولمة في بداية الثمانينات والتي أصبحت المشروع البديل لأزمة الدولة الوطنية في بداية ثمانينات القرن الماضي .وقد أكدت هذه الأزمة على المخاطر الكبرى التي قادت إليها النيوليبرالية المفرطة والتي فتحت المجال واسعا أمام المضاربة والمغامرين والتي كادت أن تقود الاقتصاد العالمي للهاوية لولا تدخل الدول وتأميم العديد من البنوك الكبرى لتفادي مصير بنك الليمان براذور (leman brothers) والتي أفلست يوم 15 سبتمبر 2008.
ولم تقف الأزمة على المجال الاقتصادي بل شملت كذلك المجال الاجتماعي حيث أرجع اغلب المحللين والاقتصاديين والسياسيين الارتفاع الكبير للتفاوت الاجتماعي والفوارق الاجتماعية إلى العولمة التي كانت وراء صعود أجور الفئات الاجتماعية المرتبطة بها من المشتغلين في التكنولوجيا في المجال المالي وتهميش الفئات الاجتماعية المرتبطة بالقطاعات التقليدية .
كما عرف المجال البيئي كذلك تصاعد المخاطر أمام عجز الدول عن ضبط سياسات قادرة على التخفيض في تطور الانحباس الحراري .
وجاءت الجائحة الصحية في بداية سنة 2020 لتعطي ضربة قاصمة للاقتصاد المعولم والتي حكمت على التوزيع العالمي للعمل مع سلاسل القيمة (chaines de valeur) بالتوقف مع الحجر الصحي وتوقف حركة النقل بين البلدان .
جاءت هذه الأزمات لتؤكد هشاشة مشروع العولمة وعدم قدرته على حوكمة الاقتصاد العالمي وعلى مسك اختلالا ته الكبرى. وانطلق التفكير مع هذه الأزمة في عالم ما بعد العولمة وابرز خصوصياتها.ولم يقف التفكير على المحللين والخبراء بل أخذت الحكومات والفاعلون السياسيون دورا هاما في استقراء خصوصيات عالم ما بعد العولمة .
وقد خلق النقاش حول مستقبل العالم حركية فكرية وسياسية من خلال المساهمات والدراسات وكذلك الإرهاصات الأولى للسياسات. وقد عبر مفهوم «فك الارتباط» أو «découptage» بالفرنسية و«découpting» بالانقليزية عن هذا الجو العام والنقاشات في الفضاء العام .وقد حاول العديد من المفكرين تحديد هذا المفهوم ومحاولة تحديد توجهاته الكبرى .
ولم يقف التعاطي مع هذا المفهوم على المستوى الفكري والنظري بل قامت عديد المؤسسات والحكومات بإعطائه محتوى عمليا وتحويله إلى سياسات عمومية .
وسنحاول في هذا المقال الوقوف على هذا المفهوم وترجمته إلى سياسات عمومية .ولكن الأهم يبقى في التفكير في محتواه في وضعنا والسياسات التي يجب أن نضعها لنواجه تحديات ما بعد العولمة .
• في مفهوم فك الارتباط
إن مفهوم فك الارتباط ليس حديثا بل ظهر في العلوم الفيزيائية منذ عقود طويلة وهو يشير إلى انتهاء العلاقة بين دائريتين كهربائيتين (des circuits intégrés) .
وكعديد المفاهيم الفيزيائية وقع تحويله أو استيراده في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية وبصفة خاصة في العلوم السياسية وخاصة في الدراسات الإستراتيجية منذ بداية سبعينات القرن الماضي .وقد تم استعمل هذا المفهوم في وضع الحرب البادرة لدراسة انعكاسات تردي الوضع بين القوتين الأعظم وانعكاساتها على السلم العالمية .
كما استعمل الاقتصادي الراديكالي المصري سمير أمين وخصص لمفهوم فك الارتباط كتابا كاملا أكد فيه أن نمو العالم الثالث لن يتم إلا بالابتعاد عن العالم الرأسمالي وبناء نمط نمو مستقل .وقد أثار هذا الكتاب الكثير من النقد في المجالين الأكاديمي والسياسي .إلا انه وبالرغم من هذا النقد فقد دافع سمير أمين عن آرائه وموقفه لتصبح مسالة فك الارتباط إحدى البدائل المطروحة في الحركات المعادية للعولمة لبلدان العالم النامي للخروج من التبعية نحو النظام الرأسمالي العالمي .
وفي السنوات الأخيرة أكدت حركات المجتمع المدني في المجال البيئي على أهمية فك الارتباط بين النمو وتنامي الانحباس الضروري .وقد أشارت تقارير مجموعة الخبراء من اجل حماية البيئة أو GIEC في مناسبات عدة على أهمية هذا التمشي في ضبط سياسات محاربة الانحباس الحراري .
وقد عاد هذا المفهوم بشدة في الأشهر الأخيرة للنقاش العام يشكل الوجه الجديد أو التعبيرة الأكثر رواجا لعالم ما بعد العولمة .وقد صدرت عديد الدراسات والكتب التي تؤكد هذا التطور وتحاول تحديد مظاهره لكبرى وابرز تجلياتها .وتشير اغلب هذه الدراسات في محاولاتها لتحديد هذا المفهوم انه يهم النزعة إلى تقليص أو حتى إلغاء علاقات التكامل والتعاون بين أقطاب الاقتصاد المعولم وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا .
ومن ضمن الدراسات العديدة التي أكدت على هذا المفهوم يمكن أن نشير إلى التقرير المشترك بين الغرفة التجارية الأمريكية ومعهد الدارسات التجارية العليا في باريس والذي تم نشره تحت عنوان «Economic découpting Our new reality» أو «فك الارتباط الاقتصادي. واقعنا الجديد ؟ « في
ديسمبر 2021.وقد اشار هذا التقرير إلى أن سيناريو فك الارتباط يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية والصين سوف يعتمدان على تقنيات وألفاظ تجارية وسلاسل إنتاج مختلفة ومتناقضة .
والتفكير حول فك الارتباط لم يقتصر على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بل شمل كذلك الصين .
فقد ظهرت عديد الدراسات والتحاليل التي تشير إلى ضرورة الإعداد والتهيؤ لهذا السيناريو وهذا التوجه الجدي والمحتمل للاقتصاد العالمي في السنوات القادمة .
فقد ظهرت عديد المفاهيم في الكتب والدراسات الصينية وحتى في الخطاب الرسمي والتي تشير إلى مسالة فك الارتباط .وقد تم إعطاء ترجمة صينية لهذا المفهوم وهي Tuo gou مما يشير ويؤكد اهتمام السلطات الصينية بهذا المفهوم .وقد ظهرت عديد التصورات لهذا المفهوم ومن ضمنها مفهوم body looking أو التثبيت أو الإقفال والتي ظهرت حتى في الجريدة الرسمية للحزب الشيوعي الصيني والتي تنادي إلى التقليص من تبعية المؤسسات الصينية مللواردات الأمريكية ودعم تبعية المؤسسات الأمريكية للمواد الصينية .كما ظهر كذلك في العديد من الدوائر الرسمية الصينية مفهوم التدفق الدائري (circulation duale) منذ سنة 2020 والذي يدعو إلى إيجاد توازن بين الأمن الاقتصادي الداخلي والانفتاح .
وقد أشارت اغلب هذه الدراسات والتنظيرات المختلفة والمتنوعة لمفهوم فك الارتباط إلى الأسباب الرئيسية وراء نهاية العولمة ودخولها في عالم جديد قوامه التطوير والاعتماد على الطاقات الوطنية .ومن متابعتي لهذا النقاش ولهذا الجدل فإن المدافعين عن نهاية العولمة وضرورة فك الارتباط يؤكدون على نهاية مسائل أساسية .المسألة الأولى تهم تصاعد المنافسة بين الأقطاب الاقتصادية الكبرى في العالم وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوروبا .وهذه المنافسة كانت وراء تصاعد الخلافات وحتى الحروب التجارية بين هذه الأقطاب .
أما السبب الثاني فيهم هشاشة التوزيع العالمي للعمل والذي يعتمد على سلاسل الإنتاج (les chaines de valeur) الذي أكدت الجائحة عدم ديمومته وعدم قدرته على الصمود أمام المخاطر الكبرى .أما المسألة الثالثة فتهم الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي والتي كذلك أثبتت هشاشتها مع تواتر الهجمات ومحاولات الاختراق الأمنية والإجرامية .
مع تصاعد أزمة العولمة يبدو مفهوم فك الارتباط والحد من الارتباط بالخارج والتعويل على الطاقات الذاتية البديل الذي تتداوله اليوم بكل قوة مراكز البحث والتفكير .إلا أن هذه المسالة لا تقتصر على النقاش والبحث بل تجاوزتها بعض البلدان لتحويلها إلى سياسات عمومية .
• فك الارتباط في السياسات
بدأت عديد الدول في تطبيق سياسات تسعى إلى فك الارتباط من المحاور والأقطاب الكبرى.ولعل أول هذه الدول هي الولايات المتحدة الأمريكية تحت رئاسة ترامب حيث قامت منذ 2018 بالترفيع في المعاليم الديوانية على الواردات الصينية .كما قررت الإدارة الأمريكية منع بيع عديد المواد التكنولوجية للشركات الصينية وطردها من عديد الأسواق الإستراتيجية كالمواصلات الهاتفية .
وفي نفس التمشي قامت بلدان الاتحاد الأوروبي بأخذ عديد القرارات في نفس الاتجاه.وتحولت هذه القرارات إلى سياسة واضحة المعالم وقع توخيها من الاتحاد الأوروبي تحت عنوان سياسة الاستقلال الاستراتيجي المفتوح أو la politique d’autonomie stratégique ouverte» سنة 2021. وتسعى هذه السياسات إلى مراقبة الاستثمارات الأجنبية في القطاعات والمرافق الإستراتيجية مثل التكنولوجيا والموانئ وتصدير المواد التكنولوجية المتطورة .
ولم تبق الصين مكتوفة الأيدي في هذا المجال حيث قامت من جهتها بأخذ عديد الإجراءات من اجل مواجهة هذه القرارات والسياسات من طرف قطبي الاقتصاد العالمي والتي ولئن أخذت في بعض الأحيان طابعا عاما فإن هدفها كان محاربة التنافسية الجديدة للصين.
فقامت الصين بضبط ما سمي «مخطط الصين 2025 « او «Plan china 2025» والذي يهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي للصين في المواد الإستراتيجية بنسبة %70 سنة 2025.وإذ كانت النتائج اقل من المتوقع فإن أهداف هذا المخطط والسياسات الصينية يبقى قائما ويهم فك الارتباط والتخلص من التبعية الكبرى للسوق العالمية .
• فك الارتباط ومستقبل اختياراتنا الكبرى
يعيش عالمنا فترة مخاض كبرى تتميز بالخروج من سردية العولمة السعيدة التي عشنا على وقعها في العقود الأخيرة .وفي ظل هذه التحولات أصبح مفهوم الارتباط الإطار الجديد لرسم وتحديد السياسات العمومية والرؤى الإستراتيجية للمستقبل .
ولابد لبلادنا أن تأخذ بعين الاعتبار لا فقط التحولات الكبرى التي يعيشها العالم ومحاولات الخروج من العولمة بل كذلك المفاهيم الجديدة التي تؤثث للسياسات والاختيارات الكبرى المستقبلية.وفي هذا المجال لابد لنا أن نأخذ بعين الاعتبار مفهوم فك الارتباط في تحديد اختياراتنا الكبرى .وهذا المفهوم لا يعني بالنسبة لن الخروج من الاقتصاد العالمي أو القطع معه بل العمل على تطوير اكتفائنا الذاتي في عديد المجالات الاقتصادية الإستراتيجية كالقطاع الصناعي والفلاحي والطاقي .
إن التحولات الكبرى التي يمر بها العالم تتطلب منا فتح مجال التفكير والتخطيط والاستشراف لنحدد رؤانا وإستراتيجياتنا لعالم ما بعد العولمة .