فإن انطلاق الحرب الروسية في أوكرانيا سيدعم هذا التطور ليصبح ظاهرة مخيفة ومفزعة للمسؤولين في كل بلدان العالم .ولئن نجحت البلدان المتقدمة في كبح جماح هذا الغلاء وإيقاف انعكاساته التضخمية فإن ظاهرة انفلات الأسعار الغذائية في الأسواق العالمية ستكون له انعكاسات وخيمة على البلدان النامية ومن بينها بلادنا وأغلب بلدان جنوب المتوسط مثل مصر والجزائر والتي تعاني من عجز كبير في إنتاج الحبوب والمنتجات الفلاحية الإستراتيجية الأخرى كالحليب والزيت واللحوم والدواجن.
ولغلاء أسعار المواد الغذائية على المستوى العالمي انعكاسات هامة ووخيمة على بلداننا على ثلاثة مستويات على الاقل.المستوى الأول يهم التوازنات المالية للدولة حيث سينتج عن هذا الغلاء تطور كبير لتكلفة الواردات مما سينجر عنه ارتفاع في عجز الميزان التجاري.كما سيكون لغلاء أسعار المواد الغذائية انعكاس على مصاريف الدعم وبالتالي تدهور لتوازن المالية العمومية .
أما المستوى الثاني لتأثير ارتفاع الأسعار العالمية على بلداننا فيهم منحاه التضخمي وبالتالي انعكاساته السلبية على المقدرة الشرائية للمواطنين.وقد تقود هذه الزيادات إلى الدخول في حلقة تضخمية باعتبار أن المنظمات النقابية ستطالب بزيادات في الأجور لمواجهة تدهور المقدرة الشرائية والتي ستعود إلى ارتفاع جديد في الأسعار ليخرج التضخم عن السيطرة .
أما المستوى الثالث لانعكاسات ارتفاع أسعار المواد الفلاحية فتهم النسيج الاقتصادي بصفة عامة ومن ضمنه القطاع الزراعي وصناعة المواد الغذائية والتي تستعمل المواد الفلاحية كمواد أولية .
ولئن كانت الزيادات في بداياتها ستكون لأزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية على المستوى العالمي انعكاسات كبيرة في المستقبل نظرا لتداعياتها الاقتصادية المتعددة.ومما يزيد الوضع تعقدا في الكثير من البلدان هو التخبط الذي تعرفه السياسات العمومية في محاولاتها الإجابة على هذه الأزمة وتجاوز انعكاساتها .فاتجهت بعض الحكومات إلى الترفيع في أسعار المواد الغذائية لحماية الفلاحين أمام تدهور ظروف الإنتاج مع ارتفاع أسعار المواد الأولية.إلا انه سرعان ما وقع التراجع عن هذه الزيادات نظرا لانعكاساتها على المقدرة الشرائية.
واتجهت بعض الحكومات الأخرى إلى تحديد الأسعار بصفة بيروقراطية وفرض احترامها مما دفع الكثيرين من الباعة أو الفلاحين إلى إيقاف الإنتاج أو البيع .
تتميز السياسات العمومية بطابعها الظرفي وغياب البعد الاستراتيجي في التعاطي مع هذه الأزمة الكبيرة للمواد الغذائية على المستوى العالمي.
وسنحاول في هذه الورقة طرح الطابع الاستراتيجي لهذه الأزمة والذي يهم واقع السياسات الفلاحية ومستقبلها في التعاطي مع انفلات الأسعار للمواد الغذائية على المستوى العالمي.ويهم هذا الطرح والتساؤلات الملحة التي تواجهنا مستقبل السياسات الفلاحية في واقع ما بعد العولمة والخروج من الاختيارات النيوليبرالية والتي تعطي الأولوية لجانب التجارة الدولية واستيراد المواد الغذائية .
لقد عرفت فترة العولمة هيمنة تصور معين لمسألة الأمن الغذائي أعطى الأهمية الأساسية لتوفر المواد الغذائية من خلال الإنتاج الداخلي أو التوريد.وقد أثبتت هذه الرؤية قصورها في السنوات الأخيرة وبصفة خاصة في فترة الأزمات العالمية وارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية.ولم تتمكن البلدان النامية من التحكم في هذه الأزمات التي اثبتت هشاشة أمنها الغذائي وواقعها الفلاحي.
إن الأزمة الحالية تدفعنا إلى ضرورة التفكير في مستقبل السياسات الفلاحية في بلداننا وطرق الخروج من التبعية وبناء نظام زراعي جديد يكون هدفه على المدى الطويل تحقيق أمننا الغذائي.
ولكن قبل تقديم بعض الأفكار حول أولويات السيادة الغذائية لما بعد العولمة سنقف عند الخصائص التي تفسر خصوصية القطاع الفلاحي وهشاشته في نفس للوقت .
• في خصوصية القطاع الفلاحي
يتميز القطاع الفلاحي بخصوصيتين متناقضتين تجعلانه محل جدل كبير خاصة في إعداد السياسات العمومية للقطاع .
الخاصية الأولى تهم مردودية القطاع حيث أثبتت الدراسات الاقتصادية منذ زمن طويل ضعف ربحيته إن لم نقل غيابها.وقد أشارت الدراسات التاريخية أن النشاط الاقتصادي يتحول تدريجيا من القطاع الأول(secteur primaire) الذي يشمل الفلاحة إلى القطاع الثاني (secteur secondaire) الذي يشمل الصناعة ثم قطاع الخدمات.وينتج عن هذا الانتقال تراجع كبير في دور القطاع الفلاحي من الناحية الاقتصادية .
وقد تضاعف هذا التراجع في المردودية الاقتصادية بالسياسات التحديثية في المجال الاقتصادي والتي طبقتها النخب والتي ركزت على الصناعة والمدن على حساب الريف والقطاع الفلاحي.فقامت بتحويل الفائض في القطاع الفلاحي إلى المدن من خلال تطبيق سياسة أسعار منخفضة للمواد الفلاحية لصالح المواد الصناعية .
وهكذا عانت الفلاحة على مدى قرون لا فقط من مردوديتها الضعيفة بل كذلك من السياسات العمومية التكنوقراطية والتحديثية والتي لعبت دورا كبيرا في تهميش القطاع الفلاحي وتفقير الريف والفلاحين .لكن وفي نفس الوقت فإن للقطاع الفلاحي خاصية هامة وهي تخص دوره الاستراتيجي السياسي والاقتصادي.
فالفلاحة تلعب دورا أساسيا من حيث كونها توفر المواد الأساسية لتغذية الناس وتحقيق الأمن الغذائي في أغلب بلدان العالم.كما تساهم في النشاط الاقتصادي من حيث أنها توفر المواد الأولية الضرورية للصناعات الغذائية.كما للفلاحة كذلك دور هام من ناحية التوازن البشري في البلدان حيث أنها تساهم في بقاء سكان الريف في قراهم وتقلص من الضغط البشري على المدن وتحد من ظاهرة النزوح وما ينتج عنها من انعكاسات سلبية اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية.
إذن يجد القطاع الفلاحي نفسه في مفترق توجهات مختلفة ومتناقضة .فالمردودية الضعيفة لا تشجع على الاستثمار في القطاع الفلاحي .بينما أهمية القطاع ودوره الاستراتيجي يدفعان السياسات العمومية إلى الاهتمام بالقطاع ودعمه .
• السياسات الفلاحية من التهميش إلى الأمن الغذائي
لقد اختارت السياسات العمومية لعقود طويلة تهميش القطاع الفلاحي بل وساهمت في تفقيره من خلال العمل على تحويل فائض الإنتاج من الريف إلى المدينة من خلال سياسات الأسعار الضعيفة وضعف الاستثمارات العمومية والخاصة في القطاع الفلاحي .وكان لهذه السياسات نتائج اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية وخيمة .فقد عرف الريف مستوى كبيرا من الفقر مما دفع العديد من السكان إلى ترك قراهم والزحف إلى المدن بحثا عن لقمة العيش .فتشكلت الأحياء القصديرية التي كانت وراء تنامي الجريمة والعنف في المدن.وفي نفس الوقت نتجت عن هذه السياسات وتهميش القطاع الفلاحي تراجع في توفر المواد الغذائية الضرورية وهشاشة في التوازن الغذائي لأغلب بلدان العالم.
ستقود هذه النتائج السلبية إلى مراجعات كبرى في اغلب بلدان العالم للسياسات الفلاحية ومحاولات إلى إعادة الاعتبار للقطاع الفلاحي من خلال سياسات عمومية جديدة ستعتمد على مفهوم الأمن الغذائي .وقد عرف هذا المفهوم تطورا كبيرا منذ ستينات القرن الماضي ليصبح الإطار الأساسي والمرجعي للسياسات في أغلب بلدان العالم.وستساهم المنظمات العالمية وبصفة خاصة الفاو أو منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة في التعريف بهذا المفهوم وجعله أساس السياسات القطاعية الفلاحية في البلدان النامية.
ويرتكز مفهوم الأمن الغذائي على أربعة مبادئ أساسية .المبدأ الأول هو الحصول على الغذاء وقدرة الناس على شراء المواد الغذائية الضرورية لتلبية حاجياتهم.المبدأ الثاني يهم توفر الغذاء بكميات كافية من الإنتاج الداخلي أو من التوريد .
المبدأ الثالث يخص جودة المواد الغذائية من الناحية الصحية أو القيمة الغذائية .أما المبدأ الرابع فهو يخص الاستقرار في توفر المواد الغذائية وفي الأسعار.
ساهم مفهوم الأمن الغذائي في إعادة الاعتبار للقطاع الفلاحي وتحديد سياسات عمومية جديدة في المجال الفلاحي لعبت دورا كبيرا في دفع الاستثمار والإنتاج والإنتاجية .وقد شهد العالم فترة من الطفرة في الإنتاج الفلاحي ليتراجع شبح الجوع عل مدى العقود الأخيرة .
• الأمن الغذائي في ظلال العولمة
لئن ساهم مفهوم الأمن الغذائي في ضبط سياسات جديدة أعادت الروح للقطاع الفلاحي فإن تطبيقه سيعرف اختلافات كبيرة في ظل العولمة .
وتأثير العولمة لم يقتصر على القطاع الصناعي بل وصل إلى القطاع الفلاحي الذي عرف تطورا كبيرا في مبادلاته على المستوى العالمي.
وأمام العولمة ستعرف السياسات العمومية في مجال الفلاحة ولتحقيق الأمن الغذائي اختلافات كبيرة بين تصورين هامين.
التصور الأول للأمن الغذائي هو الذي ستعمل على تطبيقه البلدان المتقدمة والذي سيعتمد بصفة أساسية على الإنتاج الداخلي في توفير المواد الغذائية للمنظومات الفلاحية الإستراتيجية.وستتبع عديد البلدان هذه الرؤية ومن ضمنها البلدان الأوروبية من خلال السياسة الفلاحية الموحدة كما سيكون نفس التوجه في الولايات المتحدة الأمريكية وعديد البلدان الآسيوية ومن ضمنها اليابان وكوريا الجنوبية.وتسعى هذه البلدان إلى الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في المنظومات الفلاحية الإستراتيجية للأمن الغذائي.وفي أوروبا تهم هذه السياسات منظومات الحبوب واللحوم والحليب والزيت والسكر.وتعتمد هذه السياسات على أدوات راديكالية كالدعم المالي المباشر للفلاحين ودعم التصدير وحماية السوق الداخلية من خلال رسوم ديوانية عالية .
ولئن أثارت هذه السياسات الكثير من النقد داخل منظمة التجارة الدولية من طرف الدول النامية باعتبار تأثيرها السلبي عليها فإنها مكنت هذه الدول من تحقيق أمنها الغذائي في المنظومات الفلاحية الإستراتيجية .
أما التصور الثاني والذي طبقته أغلب البلدان النامية تحت تأثير المنظمات الدولية فهو يعتمد على مبدإ القيمة التفاضلية (avantages comparatifs) الليبرالي والذي يدعو البلدان إلى التخصص في القطاعات الزراعية التي يملكون فيها قيمة تفاضلية.وسيرتكز في هذه السياسات مبدأ الأمن الغذائي على التجارة الدولية وتصدير مواد مثل الغلال والخضروات وتوريد المواد الإستراتيجية مثل الحبوب واللحوم.
سيكون هذه التصور وراء السياسات العمومية في الميدان الفلاحي في أغلب البلدان النامية.وقد أثبتت الأزمات المتتالية هشاشة هذا الاختيار باعتبار انعكاساته السلبية على التوازنات المالية للبلدان النامية وعلى المقدرة الشرائية للفئات الشعبية ليكون وراء عودة شبح الجوع في العديد من هذه الأقطار .
• السيادة الغذائية في زمن ما بعد العولمة
إن الأزمات الغذائية المتتالية في السنوات الأخيرة تدفعنا في بلادنا إلى إعادة النظر في السياسات الفلاحية.ويجب أن نقوم بضبط اختيارات إستراتيجية جديدة تمكننا من الخروج من الهشاشة والتبعية الغذائية التي تعيشها بلادنا منذ عقود.
وفي رأيي يمكن لمفهوم السيادة الغذائية أو (la souveraineté alimentaire) أن يشكل الإطار الجديد للسياسة الفلاحية لما بعد العولمة لكونه يضمن قدرا كبيرا من الأمن والاستقلالية الغذائية في زمن ما بعد العولمة.
وقد قدمت حركة campesina أو via أو «فيا كامباسينا» وهي منظمة من المجتمع هذا المفهوم في القمة العالمية للتغذية والتي نظمتها الفاو أو المنظمة العالمية للتغذية والزراعة في روما سنة 1996 .ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا المفهوم شائعا عند عديد المنظمات وفي عديد المحافل الدولية.ويدعو مفهوم السيادة الغذائية الى تمكين الدول من صياغة سياسات فلاحية تحترم حقوق الفلاحين في العيش الكريم وتأخذ بعين الاعتبار التحولات المناخية وتسعى في نفس الوقت لتامين الغذاء وتدعيم استقلاليتنا في هذا المجال .
وقد حاولنا تقديم فهم معين وبراغماتي لهذا المفهوم .فالسيادة الغذائية في رأينا لا تعني نهاية التجارة الدولية في المواد الغذائية وبصفة خاصة تشمل ضرورة مواصلة تصدير المواد التي اكتسبنا فيها قيمة تفاضلية كالزيوت والتمور وبعض الغلال والخضراوات.ولكن لابد لنا من تطوير مستوى التحويل (La transformation) على حسب تصدير المواد الخام بدون تحويل.وهذا التحويل يساهم في تحسين توازناتنا المالية ويمكننا من دعم نسيجنا الصناعي .
كما أن مفهوم السيادة الغذائية لا يعني في تصورنا تحقيق اكتفائنا الغذائي في كل المواد الفلاحية .
إن هذا المفهوم والسياسة الفلاحية الجديدة التي ننادي بها يجب أن تضع نصب أعيننا وهدفها الأساسي تحقيق الاكتفاء الغذائي في المنظومات الفلاحية الأساسية للنظام الغذائي في بلادنا.وهذه المنظومات تشمل خمس قطاعات فلاحية أساسية وهي الحبوب واللحوم الحمراء والحليب والزيت والدواجن والبيض والسكر.
ويمكن لنا أن نستفيد في بناء هذه السياسة الفلاحية الجديدة من تجربتنا السابقة في بناء بعض المنظومات الفلاحية كالحليب والسكر بأخطائها ونجاحاتها .إن تقييم التجارب السابقة سيمكننا من بناء سياسات جديدة قادرة على التخفيف من هشاشة توازننا الغذائي وتبعيتنا الكبيرة للأسواق العالمية في هذا المجال .وهذه السياسات الجديدة تتطلب من الدولة وضع كل الإمكانيات وكل أدوات السياسات العمومية لضمان نجاح اختياراتنا .
يعيش العالم اليوم على وقع الكثير من الأزمات والتي فتحت مجال التفكير لضبط سياسات عمومية جديدة لعالم ما بعد العولمة .ويشكل الميدان الفلاحي والغذائي احد مجالات التفكير لضبط سياسات عمومية جديدة لتجاوز الأزمة الغذائية والارتفاع الكبير للأسعار العالمية والتي قادت في بعض البلدان إلى ظهور شبح المجاعة.وككل بلدان العالم لابد لبلادنا من الانخراط في هذا البحث والتفكير من اجل صياغة سياسات فلاحية جديدة تضع نصب أعينها تطوير اكتفائنا الذاتي في القطاعات الفلاحية الإستراتيجية للنظام الغذائي في بلادنا .