للإسلام السياسي بالفساد والفساد بالإسلام السياسي. بيد أن الواقع مختلف نسبيا عن التصور الذي يسند مثل ذلك التساؤل. والواقع الأول، منطلق كل شيء، هو «لحظة انهيار السلطة» وما تبعه من اهتزاز عنيف للدولة، انجر عن ذلك أمران، الأول أن الفساد الذي كان تحت سيطرة الدولة خرج عن نطاق تحكمها فيه، والإسلام السياسي المقموع بالحديد والنار تحرر بجميع أصنافه: انطلاقا ممن يتبنى شكليا الديمقراطية وصولا إلى الإرهاب وكل ما يأتي بينهما. وكان أمر عموم التونسيين، المتمسكين بدولتهم ورصيدهم الاجتماعي والثقافي، من2011 إلى 2015، هو «الدفاع عن الكيان» ضد: «شركاء أنصار الشريعة الإرهابي» و» المسفرين إلى ليبيا وسوريا» و»منظمي مؤتمر أصدقاء سوريا العدواني» و»المتهجمين على حرية الابداع في أفريكا والعبدلية» و»المعادين لحرية الفكر والبحث في الجامعة» و»المصممين على ضرب الأمن والدفاع الوطني» و»المخترقين لكل أجهزة الدولة» و»العاملين على تفريغ مالية الدولة من أجل التعويضات» و»المخططين لتقسيم تونس إلى مسلمين وكفار». خمس سنوات، من 2011 إلى 2015، لإخراج تونس من الجحيم الذي أريد لها، وقد حقق الشعب التونسي الهدف، بإزاحته لحركة النهضة عن الصدارة الانتخابية التي قال عنها أنها ستمتلكها على الأقل مدة خمس عشرة سنة. في تلك اللحظة بالذات، بداية 2015، كان من المفروض أن تحل اللحظة الثانية والمتمثلة في رباعية «تدعيم البناء المؤسساتي الجديد، واسترجاع مكانة الدولة، وانجاز التنمية العادلة التنمية، ومقاومة الفساد».
عدم إنجاز اللحظة الثانية أدى إلى انتخابات 2019 الخرقاء، حيث كانت انتخابات بمنطلقات عقيمة أدت إلى نتائج لا تقل عقما. ومجمل ما نعيشه اليوم ليس إلا مواصلة الفراغ الذي حصل بانتفاء القيام باللحظة التونسية الثانية ورباعيتها. كل ما يدور منذ 2015 حلقة وطنية مفرغة، لأنها حلقة توقف كلي، فاقدة لكل معنى. لكن هل يعني ذلك أننا استوفينا كل الرصيد الوطني؟ قطعا لا. لكن «الرفس في حلاب مقعور» لم يكن يوما ولن يكون هو الحل. ماذا يقول قيس سعيد في كل هذا الأمر؟ يقول أتركوني «وحدي» أرتكز على جزء من انتخابات 2019، جزؤها الرئاسي، لكي أصلح بضربة واحدة ثلاث مسائل. «الإسلام الساسي» و»الفساد» و»الطابع الأخرق للدستور». لكن ما لا يريد أن يقر به قيس سعيد هو أن ثورة كاملة قامت ضد الحكم الفردي واحتكار كل المبادرة وإلغاء كل من لا يوافق بصفة مسبقة وغير مشروطة. إن جنة قيس سعيد الموعودة جحيم، لأنه مهما كانت تبريراته وأعذاره فهو لا يمثل إلا تراجعا إلى الوراء، الوراء المتمثل في «العنطزة» و»الاعتداد بالنفس» و»التنكر للتاريخ والنضالات» عندما كان هو وأمثاله إما في سبات عميق أو من مساندي وأعوان وهياكل نظام التسلط. قيس سعيد ليس إلا محاولة جديدة، بائسة لا محالة، لكنها قائمة، لفسخ الذاكرة والبناء على العدم وتقديم نفسه على أنه الصانع والخالق والمنقذ والمبدع، الواحد الأحد. صحيح أنه وجد كثيرا من أنواع الدعم والمساندة من جانب أطراف لم يكن أحد يتصور أنه يمكن أن تكون من قريب أو من بعيد في مثل هذا المنهج والمنطق، لكن ما حصل وما يحصل هو دليل قاطع على الضياع، ضياع الكثير بعدما انقلبت السفينة وعصفت الرياح وتعالت الأمواج وتلاطمت وانحلت التوازنات وتفككت المعتقدات وأصبح الكثير يبحثون عن أي لوحة تتعلق بها للنجاة من الموت، موت العقل وانتعاش الشعوذة.