مما أحرج إلى حدّ ما الحكومة وأزعج الرّئيس وأنصاره الذين يرون في الاتحاد العائق الأكبر أمامهم في المرحلة الحالية، وأن إصرار صندوق النقد الدولي على إقحامه في المحادثات للوصول إلى اتفاق مع الحكومة سيعزّز موقفه من المسائل السياسيّة المطروحة على الساحة
وما يزعج الرّئيس من هذا المعطى المستجد ، أنّه بعد أن انطلق في تنفيذ خارطة طريقه وتقدّم فيها أشواطا بعد أن أزال أهمّ اركان المنظومة السابقة وانفرد بالكامل في اتّخاذ القرار السياسي ، أنه في حاجة ملحّة إلى اتّفاق مع صندوق النقد الدّولي لتغطية عجز الميزانية وتلافي انهيار الماليّة العمومية ونفس الوقت لا يريد أن يتورّط تحمّل أي نتائج تزيد في تدهور أوضاع الفئات الشعبيّة وهو الذي بنى مصداقيته على رفض التّدخّل الخارجي وسياسة التّداين وعلى محاربة الفاسدين والمناوئين والمنظومة القديمة بكلّ مكوّناتها التي يحمّلها بالكامل مسؤوليّة ما يسمّه «الخراب « الذى لحق بالبلاد في العشرية الفائتة، لذلك أخذ مسافة مما يجري من محادثات مع الصندوق وترك الأمر بيد الحكومة بعد أن حذرها من المساس بمستوى عيش الفئات الشعبيّة .
لكن صندوق النقد الدّولي ليس بالجمعيّة الخيريّة أو بنك تضامن ليراعي الأوضاع الاجتماعية ويهتمّ لمعاناة البلدان التي تلجأ إليه، فهمّه الأوّل والأخير أن تتوفّر الضمانات الكافية لاسترجاع أمواله لذلك يضع شروطا قاسية على مدينه، ولا توجد أيّ وصفة خاصة لحماية الفئات الهشة من تبعات الإصلاحات التي قد يفرضها على مدينيه.
والصعوبات التي تعترض الحكومة في مفاوضاتها مع الصندوق، مردّها ليس تشدّد الحكومة أو بحثها عن وصفة للتخفيف من أثارها السلبيّة على حياة المواطنين ، فلقد ألمحت في تصريحاتها للإجراءات المؤلمة التي ستضطرّ إليها و بأنّ لا مفرّ لها من القبول بها، بل في أنّ الصندوق يطلب منها إقحام أطراف لها مستوى من التّمثيلية وبالأساس الاتحاد العام التونسي للشغل لأنّه محترز على الاتفاق معها أنّ بسبب أنّ مصدر شرعيّتها الوحيد هو الرّئيس وهذا غير كاف في نظره لنجاح أي اتفاق، وهذا ما يحرج الحكومة ويضعها في ورطة حقيقية وهي التي شرعت في وضع حواجز «للاحتماء من الضغوطات النقابيّة بإصدار المنشور20 الذي يضيّق كثيرا على المفاوضات مع النقابات وهي لا تنوي فتح مفاوضات للزيادة في الأجور كما يطالب الاتحاد بذلك.
كما أنّ الاتحاد لا يقبل بشراكة شكلية تجعله مجرّد غطاء لتمرير خيارات حكومية لم يشارك فيها لذلك يجاهر بمعارضته لرفع الدعم وتجميد الأجور والانتداب و يضع خطوطا حمراء أمام المساس بالقطاع العام بما يجعل الحكومة مكبّلة لا تستطيع تقديم التنازلات التي يطالبها بها الصندوق هذا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، أمّا على الجانب السياسي وفي علاقة الاتحاد برئيس الدولة، فبالرّغم من مساندته لـ 25 جويلية حافظ على مسافة بينه وبين الرئيس ولم يتردّد في كثير من الأحيان من انتقاد خيارات هذا الأخير، والتعبير عن اعتراضه على انفراده بالقرار السياسي تحديد مستقبل ا للبلاد لوحده، والاتحاد يطرح رؤيته مختلفة عن الرّئيس لحل الأزمة، ويدعو إلى إجراء حوار وطني مع أوسع الأطياف السياسية، والاتحاد يعرف جيّدا بانّ فلسفة مشروع الرّئيس تقوم على مناهضة الأجسام الوسيطة بما فيها النقابات وأنّه لا شيء يمنع الرّئيس من إضافته على قائمة الهدم مثلما فعل مع البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء وهيئات دستوريّة لو استتبّ له الأمر بالكامل.
والرّئيس ، الذي لا يوجد في قاموسه كلمة شراكة أو مراجعة أو عودة إلى الوراء، والغير مستعدّ للسماح بإعادة خلط الأوراق من جديد، وماض في مشروعه إلى الأمام غير مكترث بالأصوات التي ترتفع ضدّه من هنا وهناك ، عمل كلّ ما في وسعه لتحييد الاتحاد وتأجيل المواجهة معه لأكثر ما يمكن من وقت، لكن الفسحة انتهت بينهما بعد أن اضطرّهما الموقف من صندوق النقد الدولي للّعب بالمكشوف وصار الإتحاد يطالب الرئيس بالإعلان عن موقف واضح بالرفض أو الموافقة محتوى شروط الصندوق
لقد باتت كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ المواجهة بينهما وشيكة، بل أنّها انطلقت على مواقع التّواصل الاجتماعي بالهجومات التي تشنّها الصفحات المساندة للرّئيس على الاتحاد وقياداته، واتّهم أمين عام الاتحاد مؤتمر إحدى هياكله بأنّ قريبة أحد الوزراء البارزين تدير صفحة تتهجم على الاتحاد وقيادته، وفي نطاق التصعيد دعت تلك الصفحات إلى التظاهر ضد الاتحاد ومحاصرة مقراته يوم 9 أفريل المقبل، وهذا ما اعتبره العديد من الملاحظين مقدّمة للمواجهة التي ستحصل على أرض الواقع. .
لكن هل في إمكان الماسكين بالسلطة اليوم القدرة على إزاحة الاتحاد من المشهد؟ تاريخ هذا الأخير حافل بمثل هذه المعارك وخرج منها كلّها سالما، وحتّى التقلّبات التي عرفتها البلاد بعد ثورة 17-14 لم تؤثر فيه وظلّ محافظا على تماسكه وتاثيره في الأحداث، وحتى حلم التيارات الإسلاميّة وحلفاءها في إضعافه والحدّ من قوته ه تبخّر سريعا، وجاءت تلك القوى حين تردّى وضعها في الحكم تحت جناحه تبحث عن مخرج للأزمة التي وقعت فيها ، جلّ الأحزاب حاولت أن تخترقه أو تحتويه لكنّها في النهاية سلّمت بالاعتراف بدوره المهم في الشأن العام والذي يتجاوز المطلبيّة والمهنية، ومن الخطإ الاعتقاد بأنّه يمكن زعزعة أركان الإتحاد من خلال ضرب قياداته وهياكله، فقوّته والتي تأخّر الكثيرون في فهمها يستمدّها ا من احتضانه لغالبيّة الطبقة الوسطى بمختلف انتماءاتها المهنية والإيدلوجية ، وتلك الغالبية التي ضمنت التوزان المجتمعي حقّقت أهمّ مكتسباتها بالنضال في صلبه، ولا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن تنفصل عنه، والدليل على ذلك بأنّ كلّ محاولات خلق منظمات موازية له باءت بالفشل، وأنّ أغلب الإضرابات التي تدعو إليها هياكله تكون ناجحة، رغم حملات الشجب والإدانة الصادرة عن عدّة جهات ، والطبقة الوسطى هي محور كلّ التغيرات بالبلاد وشعورها بالتخوف من فقدانها لحقوقها الاجتماعية والمدنيّة والسياسية يدفعها أكثر فأكثر للاحتماء بأخر جدار مازال قادر على الصمود وسط الزوابع: الاتحاد.