حيث صار كلّ ما يستجدّ على الساحة يُصبح موضوع اصطفاف ومعارك إعلاميّة ودعائيّة ضارية، والغريب أنّ جميع الأطراف المتناحرة متّفقة على خطورة الوضع المالي والاقتصادي بالبلاد، لكن كلّ طرف يسعى إلى استغلال تردّي الأوضاع للإطاحة بالاخرين والانفراد بزمام الأمر ، والقاسم المشترك بين كلّ تلك الأطراف هو ابتعادها عن الواقع واعتمادها على المنطق الإيديولوجي في معالجة المسائل المطروحة أمامها وطرح الحلول لها .
ذلك الهوس الإيديولوجي ليس وليد 25 جويلية 2021 بل يعود إلى بداية ثورة 17- 14، حيث هرولت أطراف المعارضة مدفوعة بنشوة الانتصار إلى هدم أركان النّظام السّابق رافعة شعار إعادة التأسيس بحجّة التغيير الشامل، وعدم الاقتصار على إصلاحات جزئية لا تغني ولا تسمن من جوع حسب رأيها. فكان من نتائج تلك الهرولة إزاحة حكومة «محمّد الغنوشي «، تلك الحكومة التي نجحت بعد سقوط النّظام في العبور بالبلاد من المرحلة الحرجة التي مرت ّ بها بأخف الأضرار وأمّنت استمرار النشاط الاقتصادي واشتغال المؤسسات إلى نهاية فترة حكمها.
لم يلبث ذلك الخيار «الثوري» طويلا كي يكشف عن الانقسامات الحادة بين الأطراف التي تولّت المقود في ظل فراغ السلطة، فمنها من كان جاهزا لاغتنام الفرصة وكان همّه الرّئيسي وضع اليد على الدّولة والاستئثار بالحكم لنفسه، ومنها من كان يحلم بتغيير جذري للدّولة ولنظام الحكم استنساخا للتجارب الثوريّة التاريخية الكبرى ، وفي غمرة حماسهم اندفعوا في زعزعة بنية دولة قامت منذ ما يقارب التسعة قرون على وحدانيّة الحاكم وسلطة المركز، ووضعوا نظاما جديدا يقوم على تفتيت سلطة رئاسة الدّولة إلى ثلاثة رؤوس، و تقليص نفوذ المركز لفائدة السّلط المحلّية، وإثقال أجهزة الدولة الرسمية بعدد من الهيئات المستقلّة التي تنازعها صلاحياتها، ورغم إدراكهم بأنّ تلك المنظومة المعقّدة باتت معطّلة وغير قادرة على الاستمرار رفضوا مراجعة سياساتهم مما أدّى إلى وانهيار تلك المنظومة وخروجهم من دائرة الفعل السياسي.
لقد ذهبت تلك الأطراف ضحيّة استسهالها لعمليّة القطع مع الماضي وبناء كلّ شيء من جديد «على مسودة بيضاء» وعدم التّفريق بين ما يمثّل إرث للدّولة ومكسبا للمجتمع يجب المحافظة والاستفادة منه، وبين ما فسد منه ويستوجب الإدانة والتّصفية، بذلك ضيّعت الفرصة عن نفسها للاستفادة من تلك المكتسبات ظنّا منها أنّ إغراق السّاحة بالإعلام والسماح بالتّعبير دون ضوابط وتغيير الدّستور وإجراء انتخابات وتركيز برلمان تعدّدي كاف بتثبيت منظومتها الجديدة وتحصينها من أي ردّة أو سقوط.
لكن هل يبرّر وصول تجربة «العشرية السوداء» كما يسمّها البعض إلى طريق مسدود وما آلت إليه من فشل إلى هدم كلّ شيء ما قبل الخامس والعشرين من جويلية والعودة للانطلاق من نقطة الصفر؟؟
نفس الأسلوب الذي اعتمدته الأطراف الإسلاميّة وأطراف من اليسار في شيطنة «الدساترة» و»التجمعيين شيطنة مطلقة والدعوة إلى إقصائهم من الحياة السّياسية وإنكار أي أثر إيجابي لدولة الاستقلال وإحياء «أغوال الماضي» « les vieux démons « عبر ما يسمّى بهيئة «الحقيقة والكرامة» التي لعبت واحدا من أسوء الأدوار في تاريخ البلاد وكانت من أكبر أسباب فشل تلك التجربة .
فرصة أخرى يبدو أنّها في طريق الضياع بسبب سياسة الهروب إلى الأمام والإصرار على إنكار الواقع، صحيح أنّ الغالبيّة من الشعب اعتبرت 25 جويلية « ركلة في عش النمل «coup de pied dans la fourmilière» ضروريّة لتصويب المسار ووضع حدّ للنّزيف الذي أصاب البلاد وإعادة الأمور إلى نصابها، لكن ليس الجميع متّفقون على البديل الذي شرع فيه الرّئيس بالـتّدرّج ، فالكثيرين يعترضون على ذلك ليس دفاعا عن المنظومة السّابقة أو تمسّكا بها، فالكثير من الأصوات ارتفعت قبل الرّئيس مناديه بوضع حدّ لمنظومة العشرية الفارطة ولو بتدخّل الجيش، إن وجه الاعتراض الحقيقي هو على استغلال الرئيس لموقعه ولحالة الوهن التي عليها المجتمع لفرض مشروعه خارج الإرادة الشعبية الحقيقية التي لا تُترجم إلاّ بالانتخابات أو عبر حوار جامع لكلّ الأطياف إذا تعذّر ذلك.
الرّئيس الذي كان يمتنع أثناء حملته الانتخابية الإفصاح عن تفاصيل برنامجه الانتخابي الذي لا يُعرف عنه إلاّ شعار «الشعب يريد»، يكشف عن مشروع يحلّق بعيدا عن المفهوم التقليدي للدّولة ومفاهيم الدّيمقراطيّة التّمثيلية السائدة في العالم ويتّجه نحو إقامة ما يسمّي «بالبناء القاعدي» والدّيمقراطية» المباشرة. ومنذ أن أعلن عن الإجراءات الاستثنائية انطلق في تعزيز سلطاته الفردية بالمراسيم لتعبيد الطريق أمام تنفيذ مشروعه بتغيير النّظام السياسي والاجتماعي من جذوره ووضع نظام جديد بدأت ملامحه تتّضح، أهمّ ما في هذا النّظام هو إلغاء دور الأحزاب والحدّ من إشعاع وتأثير المنظّمات الاجتماعية وجمع الشعب في كتلة موحدة عبر نظام التمثيل التسلسلي الذي ينطلق من المحليات والجهويات وصولا إلى الوطني ويكون في علاقة مباشرة دون أجسام وسيطة مع القائد الرئيس.
والتجارب القليلة لما يشبه «النّظام المجالسي « أو «الجماهيري» والتي طُبّقت في العالم قامت بها أحزاب منفردة بالحكم في بلدانها أو قيادات عسكرية وكلّها تمتلك عقيدة وثوابت ومرجعيات واضحة ومكتوبة وتؤطر قواعدها عبر عمل نظري طويل ومكثف، ورغم التعبئة والحشد والأموال الطائلة في بعض البلدان فإنّ هذه التجارب انتهت إمّا بفشل ذريع أو بمأساة ، لذلك في تونس التي تمرّ بأزمة غير مسبوقة و المحكومة بواقع «جغراسياسي « دقيق وبشح في الموارد الماليّة فإنّ المضي قدما في مشروع يقوم على خليط نظري يجمع بين المحافظة والسلفية والشعبويّة والشعارات الديموقراطية ويفتقد إلى بنية تنظيمية يقوم عليها، يعتبر مغامرة غير مضمونة العواقب.