أشياء فلسفية: من تطويع المفهوم إلى لعبة الفلسفة: ما معنى أن نربّي أطفالا (2)

هل الفلسفة الموجهة للأطفال مسألة بيداغوجية، في المعنى الأصلي للبيداغوجيا كملاعبة هادفة للصبيان، أي مسألة تطويع للمفهوم في صرامته التأملية

بحيث يصبح قابلا للتمثل لدى من لا قبل له بتلك الصرامة، أو بتلك الصورية، أو بتلك العمومية ؟

أم هل إن الفلسفة الموجهة للأطفال هي فلسفة أطفال غير قابلة للترجمة ضمن معجم نضج عمري لاحق، مثلما أنها لا تكون ناتجة عن ترجمة عمر نظري متأخر وراشد إلى حداثة تمثيلية (figurative) تيسيرية تبسيطية ؟
لا شك أن الأمر على قدر من الصّعوبة. وهو لا يتطلب أقل من الإقرار بثنائية الجذر الفلسفي: ثمة الفلسفة المفهومية والنظرية التي نعرفها ونمارسها ممارسة كهول، وثمة فلسفة ليست مفهومية وليست نظرية وليست تربوية وهي كأي لعبة من ألعاب الصبى المحكومة بالصبى والتي لا يمكن أن نتصور أننا إذا ما عقّدناها بعض الشيء تحصلنا على ضرب من تلك اللعبة مشفوعة بضارب كهولة قابل للرد إلى صيغة بسيطة له متى أردنا.
لماذا أطرح هذه الأسئلة ؟ أطرحها لمحاولة الإجابة أو «التحييث» (circonstanciation) لموقفين في تاريخ الفلسفة من الطفولة، وبالتالي من الفلسفة في علاقة بالطفولة: ويمكننا إدراك هذين الموقفين وفق براديغمين:

- براديغم يمكنني تسميته البراديغم التّعليمي وهو براديغم تجسّده عدة محاورات أفلاطونية : مينون، الجمهورية، ثياتيتوس، إلخ، ولكن كذلك نصوص فلسفية كلاسيكية من قبيل حي ابن يقظان، أو من قبيل كليلة ودمنة لابن المقفع، أو من قبيل حكايات لافونتان، أو إيميل روسو، ولعل من آخر مصنفات هذه السلسلة مصنف «تعلم الحياة» للوقا فيري، والذي «يروي تاريخ الفلسفة للشبان»

- براديغم يمكنني تسميته البراديغم اللّعبي، في معنى اللعب غير البيداغوجي، من جهة عدم قابلية اللعب، وعدم حاجته، للإفضاء إلى عبرة عليا يراد تثبيتها أو غرسها في النفوس. يمكنني أن أرتب نيتشه طبعا ضمن هذا البراديغم ولكن أيضا سقراط في بعض المحاورات المعضلية.
يبدو لي أن الفرق بين هذين البراديغمين إنما يكمن في ما تنتهي إليه الفلسفة ضمن كل واحد من الإطارين اللذين يرسمان:

- ففي البراديغم الأول ينتهي التفلسف إلى أن يثير في الطفل ما يمكن أن نسمية «الاهتمام»: L’intérêt. كيف يمكننا تعريف الاهتمام؟ إنّه الوعي بأنّ اتّباع مسار ما يمكن أن يكون مفيدا، يمكن أن يعود بالمنفعة والمصلحة على الطفل: معرفة أكثر ، سيطرة أنجع ، توفقا أكمل إلى الغاية، اختصارا للجهد أيسر، إلخ. ولذلك فإن تواصل التفلسف هاهنا هو نتيجة لانتظار فائدة ما: التحصّن من الأحكام المسبقة، التطابق مع ما ينتظره الآخرون من التعقل والرصانة والقدرة على التمييز، تنمية الملكة النقدية ومقاومة الانسياق السهل، إلخ.

- وأما في البراديغم اللّعبي فإن لعبة التفلسف تنتهي لا إلى الاهتمام وإنما إلى الاندهاش. ما الفرق بين الاهتمام والاندهاش؟ أستسمحكم في أن اقرأ، بعيون غير تقليدية، جزءا من المقطع الأول من كتاب الألف الكبرى من ميتافيزيقا ارسطو:
كلّ النّاس ميّالون بالطّبع إلى المعرفة. ودليلُ ذلك (ما نجده من) استحباب الأحاسيس : ذلك أنّها، في ذاتها محبّبةٌ بصرف النظر عن فائدتها - وأحاسيسُ البصر ، هي من بين سواها، الأحبّ (إلينا). فإنّا، لا فقط عند الفعل، ولكن كذلك، إن صحّ القول، حتى عندما لا نهمّ بأيّ فعل، نفضّل البصر على كلّ ما سواه (من الحواسّ). والسّبب في ذلك أنّ هذا (البصر) يجعلنا نعرف (بواسطته) أكثر مما تتيحه لنا جميع الحواسّ، كما يُرينا كثيرا من الفوارق (بين الأشياء).

لا شكّ أنّ الحيوانات تولد ولها بالطّبع حسّ. إلا أنّه قد لا يكون من الحسّ ذاكرة لدى بعضها ولدى البعض الآخر قد يكون. وتبعا لذلك كانت هذه أكثر فطنةً وأهيأ للتعلّم من تلك التي لا تستطيع أن تتذكّر، كما كانت تلك التي لا تستطيع أن تسمع الأصواتَ نبيهةً دونما قدرة على التعلّم، شأن النّحل، وما سواه من أنواع الحيوان الأخرى التي قد تكون في هذه الحال ؛ أمّا التّعلّم فمن شأن الحيوانات التي لها ذاكرةٌ، بالإضافة إلى ذلك الإحساس (السمع). لذلك فإن الحيوانات الأخرى التي تعيش على الخيالات والذّكريات لا تتقاسم غير قليل من التجربة. ولكنّ جنس بني الإنسان يعيشون كذلك بالصّناعة والاستدلالات. وإنما من الذاكرة تحصل التجربة للناس. فتعدّد ذكريات الشيء الواحد ينتهي بأَخَرَةٍ إلى (أن يكوّن) تجربة واحدة. وإنّ التّجربة لتبدو مماثلةً تقريبا للعلم والفنّ إلا أنها تفارقهما في كون العلم والفن إنما من خلالالتجربة يحصُلان للناس، فـ»التجربة تصنع الفنّ» ... «وعدم التجربة (يصنع) البختَ « . ويتولّد الفنّ عندما ينشأ عن عدّة معرفات تجريبية حكم كلي واحد قابل للانطباق على كل الحالات الشبيهة.

لا بد من الانتباه إلى النقاط التالية:
- إنّ أحاسيسنا بالأشياء الخارجية محببة إلى أنفسنا بصرف النظر عن فائدتها لنا. إنها تنتمي إلى مجال المحبة والتحبيذ الذي تتفاعل معه النفس (أرسطو يستعمل عبارة الأغابيسيس )
- كلما تعلق الأمر بالمعرفة أو بالمقارنة تحولنا إلى موقف التفضيل، أي إلى موقف التمييز الذي يراعي إيثار النفس وتخصيصها بالفائدة.
- الملاحظة الثالثة وهي الأهم: إن التعلّم الذي يستفيد، والذي يحرّك موقف الاهتمام، لا موقف الاندهاش، هو تعلّم يقوم على استعداد الذّاكرة: إنّ فطنة التعلّم أدعى للذّاكرة. ومتى انعدمت الذاكرة لم يكن هنالك تعلم. إن براديغم التعلم يقتضي التذكر. وأما موقف الإحساس اللّحظي، غير الموجه إلى الحفظ والتخزين، فهو موقف الاندهاش العائد على نفسه في ضرب من التعهد الدائري. ما أريد أن أقوله هنا ليس التغنّي بعلاقة بالطّفل تستبعد الذاكرة، وإنما الإشارة إلى موقف غير تعليمي، لا يبحث عن مراكمة للمعارف (وهو معنى الاستبعاد الظرفي للذاكرة): فكأنما هذا الاستبعاد هو ضمانة الاندهاش الذي من كل لحظة. إنّ البراديغم اللّعبي لا يقوم على تنشيط المكتسبات، وإنما على دائريّة الاستعداد الذي لا يحمل أيّ مسبّق بقدر ما يتولد في كل مرة من نفسه: إنه بناء لحظي.
- إنّ كل موقف منهاجوي هو موقف يتنكر للطفولة، أعني أنه يوجّهها بحسب تربية تهدف إلى تكوين الكهل وزرع فكرة مهذبة عن الإنسانية فيه. هو موقف لا يترك للطفولة أن تخبر نفسها كتجربة شخصية يطالب فيها الطفل بطفولته التي له، بل يلزمها بمسار طفولة «مثمرة» لأنها تربيه منذ البداية على نضج ليس من شأنه.

- ليس لنا تقاليد عن أدبيات هذه الفلسفة. كلّ ما لنا شذرات نحاول جمعها: سنجد شذرة منها ضمن ثياتيتوس أفلاطون، حيث الصياغة الأولى لمبدئية الاندهاش، مبدئيةً أكّد هيدغر أنها ليست «ابتداء» (commencement) وإنما هي إمداد ملازم: ففي تصاد مريب يعرّف أفلاطون مبدأَ الفلسفة على أنّه الاندهاش، والفيلسوفَ على أنه هذا الشخص المضحك، والتذكّرَ التوليدي على أنه هو المعرفة: لا بد من الاعتراف بأن الأنموذجين اللذين أشرنا إليهما يشقان في تعاند لافت هذا النص السقراطي الأفلاطوني في آن: فبوجهيه السقراطي والأفلاطوني يبدو الفيلسوف هذا المندهش (155د) ثم هذا المضحك الذي يتعثر في فضلة ثوبه (175ب-176أ)، ثم تلك القابلة المولدة للمعرفة لأنّ كل تعلم هو تذكر(150ب-150ه). مفهومان للطفولة إذن، وكلاهما في علاقة بالفلسفة: من أراد أن يتعلم كان عليه أن يتذكر وأن يراكم، وأن يخزن، وأن يحفظ؛ ومن أراد أن يتفلسف لزمه أن يتحمّل ضحكة الخادمة التراقية من دهشته، وهويّه في الحفرة أيضا وفي النهاية ضحكه من نفسه. هل عمر الفلسفة هو الطفولة دائما؟ ربما. ولكن إحدى الطفولتين مطلة برأسها نحو كهولة هي مصيرها وقدرها الذي تسير نحوه تعلما وحفظا وارتياضا، وأما الطفولة الثانية فاندهاش ودوار وترامٍ بين الحفر من اللاَّفت أنَّه ليس تراجيديا، بل كأنما هو لعبة من ألعاب الصبية.
- ملاحظة أخيرة: لو أعدنا في ضوء هذا التمييز قراءة مختلف القصص الفلسفي، بل حتى القصص الأدبي، الموجه للأطفال لوجدنا أن بعض ذلك الأدب ليس بالضرورة أدب «صديقا» للأطفال، لأنه يعلمهم فقط أن يكونوا كهولا قبل الأوان، أي أن يكونوا صورة عما يريده الكهل: لكأن الكهل يود لو يختصر عمله بأن بكبر الصبي بسرعة فيتخلص هو من متطلبات، من مشاغبات تربية طفولة لا تريد أن تستقر على العبرة إلا بعد أن تلهوَ بها، تماما مثلما تلهو الوريقات على الشجيرات الرقيقات بنسيمات الربيع، فتتناغمن معهن حتى تبلغن إلى حيث يشتد عودهن: تُواصل النُّسيمات هبوبها وتظل الورقات ترمقن الوريْقات في غير قطيعة ولا نسيان ولا موْجدة. كم من ورقة لم يمنعها جفافها من استعادة رفيفها على هفيف النسيم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115