ولعبية الحياة (عنصرا لها). الحياة عنصر الفلسفة، وحدثيتها التي إذا أصبحت ناطقة صارت خطابا بل خطابات هي موضوعات استئناف ومجادلة فلسفيين. وتريد هذه المقالة أن تنطلق من أمثلة ونماذج من حضور اللعب في الفلسفة لتعين له وظيفة سرعان ما تغادره إلى العبرة، وإلى الحقيقة، التي ما أن يتم إقامتها حتى تجتهد أيما اجتهاد في إخفاء أصولها اللعبية، لتستقر بمقامات الجد، والحقيقة، والخير.
ثمة إذن نوع من استطراف اللعب سرعان ما يؤدي إلى استظرافه، في معنى تعيين المنزلة له، وتنزيله ضمن «ظَرْف» الجِدّ. تلفتنا العربية هنا بإصرارها على الجمع في كلمة واحدة ورسم واحد بين الظَّرف (وعاء، وحاويا، ومتقبِّلا:réceptacle ) وبين الظَّرف كذلك خفّةً وطرافة وحسن عبارة : فكأنما لا تنطلق الطرافة والظرافة حتى يتلقاهما الظرف، أعني دائرة التذكير (instance de rappel – à l’ordre ?) بأن للطرافة مقاما قد تعين لها أن لا تغادره: لعله مقام العبرة والاعتبار.
سنعمد في القسم الأول من هذه الورقة إلى التذكير بمقطع فلسفي يتّسع فيه جد الفلسفة إلى لعب الأطفال: ونريد أن نبين أن اللعب في هذا المقطع ليس له منطقه الخاص، وإنما هو منقاد إلى منطق الفلسفة، وليس له من دور إلا إقامة الحجة (الجدلية) على عبرة الفلسفة، أو على أطروحتها المعرفية أو الإبستمولوجية أو الإيثيقية.
وأما في القسم الثاني من هذه الورقة فسنعمد إلى مساءلة اللعب عما يقوله إذا ما صرفنا عنه «كيد» الفلسفة، وترصُّدها به مفتاحا لحقيقته التي تلزمه بأن يُفضي إليها ويعبر عنها.
في محاورة مينون يستقدم سقراط «لعبة الحوار» مع من لا يعرف، أعني مع العبد. إننا لا نتبه إلى أن عبارة العبد في اليونانية هي عين العبارة التي يقال بها الصبي. لنقل إذن إن الـ»بايس» هو «الخادم الصبي» (وهي الترجمة التي احتفظت بها مونيك كانتو سبربر ضمن الأعمال الكاملة لأفلاطون في ترجمتها الفرنسية التي صدرت عن دار فلاماريون بإشراف لوقا بريسون). حول هذا المثال يجدر بنا أن نبدي الملاحظات التالية:
1 - تتعلق اللعبة الحوارية السقراطية مع الخادم الصبي بإقامة الدليل أمام مينون، محاور سقراط الماكر الماهر (Panourgos)، هذا النمط من الرجال القادرين على كل شيء (sorte d’homme à tout faire)، إقامةِ الدليل على أننا لا نتعلم وإنما نتذكر. فاللعب الذي يمارسه الفيلسوف هو لعب «فلسفي» من جهة كونه يريد أن يصدُر عن تعاطي اللعبة تأكيدُ أطروحةٍ فلسفية جدّية.
2 - يتم تأطير الحوار الذي يمثّل لعبة الأسئلة والأجوبة بما هو «تمرين لعبي» (exercice ludique) بكل ما تحويه هذه العبارة من تنزيل للعب فقط كحامل، أي من تجريده من طابعه المخصوص كلعب يصنع قواعده من تلقائه.
3 - يتم تقطيع اللعبة الحوارية إلى أربعة مقاطع «اعتبارية»، أعني إلى أربعة مقاطع يتولى كل واحد منها مصاحبة اللعبة بنوع من وصف ما يجري، أي من تحديد، بل من تسطير، الكيفية التي يجب بها النظر إلى ما يجري داخل الحوار مع الصبي الخادم. يقع في كل مرة مغادرة مسرح اللعبة الحوارية إلى نوع من التعليق – من خارج - على ما يجري داخلها: ثمة نوع من استحضار بنية المسرحية الإغريقية التي تزامن بين لعبة الممثلين على الركح، وبين تأويل ما يجري من قبل الجوق الذي تكون مهمته في هذه الحال منع أي تأويل للحدث خارج شبكة القراءة التي يرسم حدودها هو . وتقع هذه الوقفات التحليلية في مستويات ثلاثة:
- 82 ه4 – 82 ه13 : «ها أنت ترى يا مينون: إنني لا أعلّم شيئا لهذا الصبي. وكلُّ ما أفعله هو طرح أسئلة. وها هو الآن يظن بنفسه أنه يعرف ..».
- 84أ3- 84ب10 : أترى يا مينون كم من الشوط قطع بعدُ على طريق التذكر (...) كان في البداية يظن أنّه يعرف مع كونه لا يعرف ومازال... وأما الآن فهو يعي بالحرج .. وهو على كل حال لم يعد يظن أنه يعرف ... أليس هو في حال ذهنية أحسن بالنظر ما كان يجهل... أترانا أسأنا إليه عندما أحرجناه وخدرناه مثلما تقعل سمكة الرعّاد .. إما أنني أخطأت خطأ جسيما، وإما أننا ساعدناه مساعدة كبرى في اكتشاف موقعه من الحقيقة: أما الآن وهو يجهل فإنه سيجد متعة في البحث» (...) ويختم سقراط كلامه بهذه الجملة المشكلية جدا: « ألم يكن تخديرُه مفيدا له».
- الوقفة الثالثة والأخيرة هي أطول الوقفات: إنها هي التي تتولى استجماع اللعبة في عبرتها، وتصوغها على حقيقتها:
• الصبي استفاد كل معرفته من نفسه
• إذن: المعرفة كانت كامنة فيه، كانت دائما كامنة فيه، وما كان مجهوده إلا مجهود تذكر
• لا بدّ إذن من الإقرار بأنّ هذه المعرفة قد تحصّلت له من قبل، على نحو يمكننا معه أن نقول إن تلك المعرفه هي «ما كان له من قبل»
• «من قبل» تعني قبل أن يكون إنسانا
• وهكذا فإن حقيقة الأشياء تتقدم وجودها: هي كانت في النفس وهذا دليل إضافي على خلودها بخلود المعارف التي فيها.
لقد قاد سقراط لعبة الحوار، لا كلعبة، وإنما كأشد الأشياء جدية: هو لم يتعاط اللعب، ولم يمكنه أن يستقدم إلى اللعب محاوره الصبي إلا بعد تخديره. هل يعني ذلك أن التيقظ إلى المعرفة هو دائما مغادرة للطفولة؟ وأن تلك المغادرة هي قبول بقواعد لعبة يضعها عقل «غير مخدر « يضع ثمنا للإيقاظ الفكري أن يتنازل اللعب عن لعبيته؟ فيم تتمثل لعبية اللعب؟ ربما لن نستطيع الإجابة عن هذا السؤال العسير عسر تعريف اللاوجود أو العدم. وحتى عندما خصص عالم الاجتماع روجي كايلوا في 1958 مصنفه الشهير عن «الألعاب والبشر»، فإنه لم يستطع تعريف اللعب في حد ذاته واقتصر على تعريفه بحسب حدوده: العمل/ الوقت/ الحرية/ الإنتاج/ الانضباط .. ما هو اللعب في حد ذاته، بصرف النظر عن حدوده التي تعرفه سلبيا، وعن فوائده للحضارة وللمجتمع وللتعلم؟ هل يمكننا تعريف اللعب خارج كل ذلك؟ هل ينبغي أن نخدّر هذا الكائن اللعبي الأصلي الذي هو الطفل حتى نستدرجه إلى جدية المجتمع، جدية المعرفة، جدية المعيار الأخلاقي للسلوك، جدية النجاعة في الفعل ؟ ماذا لو تعاملنا مع الطفولة من دون المخدّر الذي يقنعها بالتنازل نهائيا عن لعبية الوجود من أجل الإقبال على جدية الفعل. إننا نحن السقراطيين، نقبل أن نضع الحقيقة والخير والجمال في نوع من النسيان المنسي الذي نحرك له كل آليات التذكر، ولكننا نرفض نحن الكهول أن نستحضر بذاكرتنا لعبية الطفولة غير المعنية بمصيرها الجدي حد التراجيديا. ما يتذكره هيغل هو فقط «القوس الجدّي» (la parenthèse sérieuse) في طفولته، ولكن هيغل لا يتذكر لعبه المجنون وهو صبيّ: لا أحد من الفلاسفة يحدّثنا عن لعبية صباه المجنون، وحتى الذين تحدثوا عن الجنون، فقد التزموا بجنون الكهول، ذاك الجنون الذي لا يقع إلا على الحد بين الجد واللّعب، أعني على حرف التراجيديا.
هذا مقطع يتحدث فيه هيغل عن تجربته الشخصية مخاطبا وزير الشؤون الطبية والمدرسية والكنسية. يقول:
«وإن سمحتم لي بإثارة تجربتي الخاصّة، لا فقط كأستاذ طيلة عدة أعوام في تمهيديات الفلسفة وبوصفي مدير معهد (ثانوي)، حيث أمكنني أن أعاين بنفسي أهلية التلاميذ وتقبلهم لهذه المواد، ولكني أتذكر بالإضافة إلى ذلك، أني حفظت وأنا في سن الحادية عشرة أتأهب للتوجه إلى مدراس اللاهوت ببلادي، تعريف فولف (Wolf) للإيديا كلارا (idea clara)، ثم أتذكر أني من بعد ذلك وأنا في سن الثالثة عشرة، قد تمثلت جملة رسوم الأقيسة وقواعدها. وما أزال أحفظها إلى اليوم. ولو لم يكن في ذلك تحد كبيرٌ جدا للأحكام المسبقة التي تروج حاليا حول ضرورة أن يفكر المرء بنفسه، وحول فاعلية الإبداع، وغيرهما، لما كنت لأستنكف أبدا من اقتراح شيء من هذا القبيل لهذا الفرع من التعليم الثانوي: فإن امتلاك معرفة ما، أيا تكن تلك المعرفة، ولو كانت هي أرفع المعارف، إنما يقتضي حفظها في الذاكرة ..».
فهل نحن بالضرورة ضمن إشكالية تذكر كلما تحدثنا عن الفلسفة للأطفال ؟ هل مخاطب الفلسفة – عند الطفل - هو الذاكرة ؟ أم هو العقل؟ وكيف يمكن للعقل أن يتحرر من الذاكرة في أي سياق من سياقات التّعلم؟ ثمة افتراض يحق لنا في كل الأحوال أن نمتحنه: من أي موقع نتحدث عن الفلسفة الموجهة للأطفال؟ إن هذا السؤال يمكن أن يفتحنا على إمكانيتين وهذا هو النقاش الذي نريد تأطيره ضمن هذه الورقة: إذا كانت الفلسفة الموجهة للأطفال تأهيلا يمهد للفلسفة الناضجة فأية خصوصية وأية طرافة فيها مادام الأمر مقتصرا على مجرد تعديل يكيف المادة بحسب المتلقي مثلما نكيفها بحسب طبيعة الثقافة التي ينتمي إليها المتلقي؟ وإذا كانت الفلسفة الموجهة للأطفال فلسفة مستقلة بذاتها فعن أي مفهوم تصدر؟