محاكمة «الروبة» لحمّادي الوهايبي فساد المنظومة أم منظومة الفساد؟

نظّم المركز الجهوي للفنون الدرامية والركحية بالقيروان دورة رابعة لتظاهرة «قيروان المسرح» بقاعة الفن الرابع بتونس بالتعاون مع جمعية النقاد المسرحيين التي تترأسها الصديقة فوزية المزي.

وقد حضرت احدى الجلسات لأكتشف أن المركز قد نشر أعمال الدورات والسابقة في سياق ما سمي ب«ينابيع»، كما استمتعت بكفاءة وتميّز النقاد المسرحيين في تونس. بعد ذلك كانت لي فرصة حضور عرض «الروبة» (عباءة المحامي) لحمادي الوهايبي.
مَن يعرف حمادي الوهايبي يعرف أنه مشاكس. لذلك، فهو كثيرا ما يستشهد ببرتولت بريخت قائلا: «الاستفزاز طريقة لإعادة وضع الواقع على قدميه». فلا غرابة إذن أن تندرج مسرحية «الروبة»، في خانة الاستفزاز. ولكن، هل هو فعلا استفزاز أم محاكاة لوضع لولا حرّيّة التعبير لما تجرأ أحد على الحديث فيه؟ وهل استفاد المسرح حقا من الأزمة التي نعيشها لكي يفتح ملفات ما كان أحد يجرأ على فتحها؟

قررت وأنا أشاهد هذه المسرحية ألا أتمرن على محاولة فهم الدراماتورجيا بإحالتها إلى أحد قوالب المسرح المعروفة كالمسرح التجريبي أو الانفعالي أو التراجيدي. فجمال العمل المسرحي لا يُفهم بإحالته على مصادره، إنما شأنه أن يستبطن تلك المصادر فيقدم توليفة مميزة لعمله الإبداعي. والطريف أن فضولي كان على أشده لا سيما وأن المسرحية تتناول إشكال المحاماة والقضاء بحيث أني وجدت نفسي أشاهد ممثلين يتقمصون أدوار شخصيات كثيرا ما تميزوا بمسرَحَة مهنتهم. فالمحاماة عند البعض تقتضي حدا أدنى من المشهدية التراجيدية التي ينجح كثير من المحامين في اتقانها والتفنن في صياغة مرافعاتهم صياغة تكسي الاحداث هالة وشأنا. فكيف السبيل إلى مسرَحَة المسرح؟
المسرحية من اخراج حمادي الوهايبي بمساعدة ريم الرحموني وقد ساعد في الدراماتورجيا محمد شوقي خوجة ونور الدين الهمامي وقام بالتمثيل: نور الدين الهمامي ومحمد شوقي خوجة وسهام بوقرة وعواطف العبيدي وخلود بديدة ولطفي المساهلي. تقمص الممثلون شخصياتهم بإتقان وتفان ينم عن مهنية رفيعة يحق لمركز الفنون الدرامية والركحية بالقيروان الافتخار بها.

اللوحة الأولى تعرض حركة المحامين ذهابا ورواحا في فضاء بلا ديكور يتناقلون ملفات ويتبادلون تحيات في إيقاع سريع مسند بموسيقى ذات إيقاع متناسق من وضع قيس بن مبروك. دوي صوت صادح، كأنه انفجار يقلب المشهد فتتساقط حيطان وأسقف وتتلاشي جثث موتى وجرحى، وتسمع صراخا. تصبح الوضعية العادية دراما لا ندرك فيها ما الذي حدث تماما. وكأني بحمادي الوهايبي يحاكي دهشة التونسيين الذين رأوا تونس تنفجر ذات 17 ديسمبر 14 جافني 2011 دون أن يدركوا ما الذي حصل لهم وما الذي ينتظرهم.
ودون أن نفارق العتمة التي بدأت بها المسرحية ندرك أننا انتقلنا من أعلى إلى أسفل ومن ممرات قصر العدالة إلى دهاليزها. ومن وضوح الرمادي إلى سواد الدهاليز.
ست شخصيات تجسد الوضع القضائي. حاكمة وأربعة محامين ومتهم. أضواء قضبان وشبابيك عالية. توحي لك بانحباس الشخصيات في وضعيات سجن يتساوى الجميع فيه بحيث لا يعلمون إن كان بوسعهم الخروج منه أو الموت فيه. الشخصية الوحيدة القادرة على اكتشاف منفذ، هي شخصية المتّهم المتعوّد على الحبس وخطوبه. صار المشهد شبيها بما

سماه سارتر ب «الأبواب المغلقة». حيث يصبح «الجحيم هو الآخر». تنسلخ كل شخصية في المشهد المسرحي من عباءتها، بل من جلدها، ومن وجهها المألوف الذي تفتضيه المهنة. ليعود كل شخص إلى إنسانيته البسيطة، فتسقط الأقنعة، ويرفع الحجاب وينتهي التحفظ، وتطلق الألسن لنكتشف الوحوش الدفينة في بعض الشخصيات، وهول الفساد الذي يعيشون منه وبه. هل تلك هي حقيقتنا أم أن الظروف والوضعيات والمحن مسؤولة عما وصلنا إليه؟ تلك هي المعضلة.

يشهد الدهليز جريمة قتل المجرم «قومة» للأستاذ التوهامي. ليتواطأ الجميع في إخفاء الحقيقة لحظة الخروج من الدهليز. فما يحدث في السطح ليس إلا مواربة وتعتيم وعودة إلى الحالة الأولى. طبعا، ثمة في »الروبة» كتابة ركحية واضحة تظهر من خلال التعبير الجسماني الذي يميز حركة الممثلين في لغة جسدية لافتة. لكننا نجد أيضا سردية متجانسة تصف دراما يعيشها الممثلون لمحاكاة وضع اجتماعي عصيب يحتاج إلى صياغة أوضاعه وأوجاعه.

لم يكن اختيار عنوان المسرحية «الروبة» عرضيا إنما يحيلنا إلى رمزية العباءة المرتبطة بأخلاقية المهنة وشرفها وما يفترضه حمل العباءة من التزام بخدمة المتقاضين. قد يعجب المتفرج من درجة الفساد الذي ينخر هذه المهنة. ولكن، لو قلبنا الأوضاع، وتحدثنا عن مهنة التربية أو الشرطة أو الديوانية أو أي مهنة أخرى، هل سيكون التقرير مختلفا؟ لا أعتقد.

بدت لي مسرحية الروبة محاكمة للفساد العام الذي ينخر البلاد منذ عقود. هو حديث عما يسميه حمادي الوهايبي بـ «المسكوت عنه» وتعرية له. فالمسرح ينتمي لما يسميه إيمانويل كانط بـ «الجمهور المعارض» . هي جنس من الأدب الذي ينفتح على المجال العمومي ويعيش من خلاله تكريسا «للاستعمال العمومي للعقل». فإشهار الأعمال الفنية مهمة نضالية لمقاومة الرداءة السائدة وللتفاهة الغالبة على مشهدنا السمعي والبصري. فمن طبيعة الفن أنه فعل نقدي معارض للقائم والفاضح لما أصبح رغم رداءته مقبولا ومتداولا. لذلك، فلا غرابة أن يتناول المسرح الشأن القضائي تناولا فنيا ونقديا في جدة جمالية مسكونة بهاجس كشف ما وراء الظاهر والرتيب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115