خفايا ومرايا: أجيـال التيه الأكبر

منهم من اختار الانسحاب وكتابة مذكّراته وتمشيط «أمجاد كفاحه»، ومنهم من قرّر السّير في ركب التيّار الغالب، ومنهم من بقي يترقّب انقشاع الضّباب

واتضاح الرّؤية كي يختار موقعه في المشهد. إنّهم أبناء الأجيال المتعاقبة التي كافحت منذ الاستقلال من أجل واقع أفضل، تقلّبت بين الماركسيّة والوجوديّة والقومية والليبرالية، وانقسمت انقساما حادّا بين العلمانية الحداثية والأصوليّة الدّينية ، جرّبت التّمرّد والسّرية والمعارضة والنضال الاجتماعي والحقوقي والثقافي، وفي النّهاية وبعد كلّ تلك المسيرة الطويلة والشاقة تجلس اليوم على صفيح من الجمر وهي تتأمّل مصيرها «السيزيفي» حيث عادت لترزح تحت الحكم الفردي كما كانت عليه مع بورقيبة ومع بن علي.
فجيل السّتّينات رفع من سقف طموحه إلى الاقصى بتحدّي زعيم الأمّة «الحبيب بورقيبة» والدّخول معه في معارك ضارية وهو في أوج قوّته، لكن كما كان لذلك الجيل الشجاعة في مواجهة الزعيم ، كان لجزء منه نفس الشجاعة بعد عقدين من الزمن في الاعتراف بخطئه في المبالغة بمعاداة «المشروع البورقيبي» معتبرا إنجازاته في تحرير المرأة والتعليم والصّحة الرّكائز الاساسية التي قامت عليها «الدّولة الوطنيّة الحداثية «، كما أنّ الكثير من الأفكار التي يحملها أبناء ذلك الجيل تتقاطع مع أفكار بورقيبة ورؤيته ما عدا نزعته الأبويّة المفرطة وأسلوبه الفردي في ممارسة الحكم الذي يلامس الدّكتاتوريّة، و قد لخّص ذلك الفقيد» نور الدين بن خذر» أحد زعماء حركة «برسبكتيف» بقوله: «نحن الأبناء الشرعيين لبورقيبة».

تحوّل ذلك الجيل إلى الواقعية كان متأخّرا، فبعد أن دفع ثمن «طوباوياته» باهضا من سجونا ومنافي وملاحقات لم يجني في النّهاية الشيء الكثير من تضحياته تلك، فلم يستطع أن ينتج بديلا لحكم بورقيبة أو قوّة سياسيّة وازنة على السّاحة، وتجلّى ذلك في انقسام مواقفه في مرحلة الرّئيس «بن علي « بين الاندماج في الحكم وبين الاستمرار في المعارضة والقطيعة مع السّلطة.
لم تكن العوامل الذاتيّة والمحلّية لوحدها هي التي أحبطت وعطّلت مسيرة ذلك الجيل، فالتّغيّرات العميقة التي حصلت في العالم بتراجع الإيديولوجيا وسقوط جدار برلين وهيمنة القطب الواحد كان لها تأثير في دفعه للتّخلّي عن خطابه العقائدي، والهجرة نحو الحركات الحقوقيّة والجمعيّاتية المتماهية مع النّظام المعولم أكثر من الانتظام الحزبي والالتزام السياسي.

نكوث الرّئيس «بن علي» بوعوده الديمقراطية فرض على تلك الأجيال السير مجدّدا في نفس الدّروب الشائكة والوعرة وجعل الأجيال التي نشأت في ظل حكمه مختلفة عن سابقاتها، فالأجيال لم تعش الصراعات الإيديولوجية ولا التّحرّكات الطّلاّبية الضّخمة من قضايا العالم، ولم تعرف كثيرا الحركات الثقافية المؤدلجة ، لقد اُريد جعل تلك الأجيال بعيدة كلّ البعد عن السياسة والاهتمام بالشأن العام، لكن لم ينتبه أحد لظهور مجموعات مدارج ملاعب كرة القدم وإلى محتوى أغانيها وشعاراتها، والجميع كان في غفلة من تلك الثقافة ووسائل التعبير الجديدة التي كانت تنتشر بين شباب الأحياء الشعبيّة ولم يتفطّنوا إليها إلاّ عند حصول زلزال 14-17 الذي أودى بنظام الرّئيس «بن علي» .

ثورة 17-14 التي ظنّها الجميع نهاية الرّحلة مع الماضي وبداية طريق المستقبل سرعان ما تبيّن حدودها وغاصت في الصراعات العقائديّة والهويّاتيّة، وانحرفت عن شعاراتها وأهدافها، ف»الماكينات السياسيّة الجديدة» التي انتصبت على السّاحة أخذت تعيد إنتاج الماضي بكلّ تفاصيله، ولم تنفع كثيرا الانتخابات «الحرّة» ولا الإعلام التّعدّدي ولا الدستور ولا البرلمان في تحقيق ما كانت تصبو إليه تلك الأجيال المتعاقبة.

وقد عجزت النخب الجديدة عن خلق بدائل اقتصاديّة واجتماعية وإرساء حياة حزبيّة تعدّدية تحترم الحد الأدنى من التعايش الدّيمقراطي في ما بينها، اليوم كلّ من ساهم وشارك في الحكم وصُنع منظومة العشرية الفائتة يكتوي بنار نتائجها الهزيلة ويتحمّل جزء من تبعات سقوطها، فقد أدى سقوط المنظومة الحزبيّة المتهمة بالفساد والعبث في الاتجاه نحو عودة نظام الحكم الفردي المطلق.

سهلت «فانتزما» الجماهير المحبطة حول «الزعيم المنقّذ» الذي سينتشلها من وضعها البائس قفز قيس سعيّد فوق الجميع والاستحواذ على كلّ السّلطات. الواضح أن هشاشة تلك النخب وتسرعها في الترحاب بما أقدم عليه من إجراءات استثنائية دون قيد أو شرط هي التي ساعدته بإلقاء خصومه خارج الحلبة وإحكام قبضته على أجهزة الدولة والمضي قدما في تنفيذ مشروعه بتغيير النظام السيّاسي من جذوره.

ومن جديد تجد تلك النخب نفسها في ورطة تاريخيّة حيث كانت تعتقد أنّ مهمّة الرّئيس قيس سعيّد ستقف عند حد تخليص المسار الدّيمقراطي من عناصر الفساد والقيام بالإصلاحات الضرورية والمستعجلة ثمّ يعيد الأمور إلى نصابها ، لكنّ الرئيس انطلق بنسف الهيئات والمؤسّسات التي يراها تتعارض مع مشروعه، فلم يخفي مناهضته للأحزاب والجمعيات وكلّ أنواع الأجسام الوسيطة ، وعزمه على استبدال نظام الديمقراطيّة التّمثيليّة بنظام «البناء القاعدي،» ولم تسلم من صواريخه الخطابيّة لا الأحزاب التي ساندته ولا تلك التي عارضته مستندا على رؤيته في الفرز الطبقي بين «جمهور المفقّرين والمهمّشين» الذي ينحاز له وبين الطبقات الأخرى التي يتهمها «بالتآمر والفساد» ويرفض أن يستل منها عناصر مشروعه حتى وإن أعلنت توبتها....لأنّ الرّئيس يريد تغييرا جذريا وشاملا على حد تعبيره ولا يريد أن يحصل لمشروعه ما حصل لثورة 17-14.
هذا الوضوح والتّصميم الذي عليه الرّئيس في عدم مشاركة أي كان لا يترك المجال لتلك النخب لتحطّ رحالها وترتاح وأنّ أفق نهاية طريق رحلة التيه الطويلة ما زالت لم تظهر بعد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115