الشيخ الطرودي والعشق من وراء القضبان الحديدية

عاشت تونس العاصمة هذه الأيام على وقع معرض تونس الدولي للكتاب والنقاشات واللقاءات بعد غياب طويل نتيجة الجائحة في السنتين الأخيرتين .

وتأتي هذه العودة في جو عام تميّز برجوع الأنشطة الثقافية والفكرية نتيجة تراجع الجائحة وتحسن الوضع الصحي في بلادنا .
فقد شهدت الأسابيع الأخيرة عودة الروح للنشاط الثقافي والتظاهرات المختلفة التي من ضمنها أيام قرطاج السينمائية ومعرض الكتاب في الأيام الأخيرة إلى جانب عديد التظاهرات الأخرى كالمعارض والإصدارات الجديدة والنشاط المسرحي والسينمائي.
وقد لقيت عودة النشاط الثقافي بعد غياب طويل الكثير من النجاح الجماهيري فشهدت قاعات السينما خلال أيام قرطاج السينمائية إقبالا جماهيريا كبيرا.كما عرفت أروقة مركز المعارض في الكرم رغم تنظيم معرض الكتاب خارج العطلة المدرسية حضورا جماهيريا كبيرا من مثقفين وجامعيين كذلك الكثير من الباحثين عن الإصدارات الجديدة والكتب ومن ضمنهم الكثير من العائلات والرحلات المدرسية من أطفال المدارس الابتدائية والمعاهد .
وإلى جانب هذا الحضور الجماهيري الكبير فإن عودة الروح للنشاط الثقافي وبصفة خاصة للكتاب في المعرض كانت وراء حركية كبيرة على مستوى النشر .
ولئن كان عمل الناشرين في البلدان المتقدمة مسترسلا على مدى السنة فإن المعارض الكبرى تشكل في بلداننا فرصة لدور النشر لتقديم أهم انتاجاتها وتسريع حركة الطباعة والنشر لأهم كتابها ومؤلفيها .
ولم يخرج معرض الكتاب هذه السنة عن القاعدة فقد ضاعفت دور النشر من جهودها لتمكن القراء من الاطلاع على كتب وإصدارات جديدة من روايات وكتب تاريخية واجتماعية وسياسية والكثير من المجالات الأخرى .
وقد زاد احتجاب المعرض بسبب الجائحة من هذه الديناميكية وهذا النشاط مما أثرى العرض وزاد من تنوع الكتب المعروضة وتعددها .
تعددت التظاهرات الثقافية وشهدت بلادنا عودة الروح للإبداع في الأشهر الأخيرة اثر تراجع الجائحة لتشهد حضورا جماهيريا كبيرا ينم على عطش كبير عند الناس للفكر والفن والإبداع .وقد تمكنت من متابعة بعض هذه التظاهرات والأنشطة الثقافية بكثير من المتعة والشغف .ورغم تعددها واختلاف مشاربها فإن الخيط الرابط بينها هو الهامش الكبير من الحرية الذي ميزها والذي اصبح يشكل السمة الأساسية للعمل الثقافي والإبداع بصفة عامة في بلادنا منذ الثورة وخلال العشرية المنصرمة .فساهم عبق الحرية في تشجيع الروائيين والمبدعين والكتاب على تفتيق قرائحهم وفسج المجال لخيالهم وتحاليلهم ليساهموا في إثراء تجربتنا الجمعية .
• «عزيزتي حورية رسائل من السجل «الكتاب الحدث»:
منذ سنوات وفي مختلف الدورات لمعرض الكتاب حاولت بطريقة ذاتية اختيار كتاب ومؤلف اعتبرته الكتاب الحدث والأهم والأقرب إلى وجداني وقلبي .ومفهوم الكتاب الحدث عندي لا يعتمد على مقاييس علمية وموضوعية .فالكتاب الحدث في وجداني لا يعتمد على الجوائز التي تحصل عليها والتي تعطيها اللجان التي تحددها إدارة المعرض والتي يقع الإعلان عليها في بداية المعرض .
كما أن اختياري للكتاب الحدث للمعرض لا يعتمد على رقم المبيعات وعلى إقبال القراء على كتاب دونه غيره .
فاختياري للكتاب الحدث شخصي وذاتي للكتاب الذي اثر في نفسي لما فيه من الأفكار او لرصانة المشاعر التي عبر عنها الكتاب .واخترت في كل الدورات مثل هذه الكتب وكان من ضمنها في دورات سابقة مثلا كتاب الصحفي الهادي يحمد «كنت في الرقة» والصادر عن دار نقوش عربية .
في هذه الدورة كان من الممكن لي اختيار عديد الكتب المهمة ومن ضمنها الجزء الرابع لموسوعة الثورة لاستأذنا الهادي التيمومي حول الثورة التونسية والصادر عن دار محمد علي لصاحبها الصديق النوري عبيد .
كما كان من الممكن اختيار الدراسة الضخمة والمهمة التي أعدها أستاذ التاريخ الشاب المولدي القسومي والذي سيكون له شأن كبير عن نفس دار النشر حول هيئة حماية الثورة.
كما كان من الممكن لي اختيار الكتاب الجديد للأستاذ الجامعي والصديق شريف الفرجاني عن النيوليبرالية أو كتاب نادر الحمامي عن المتخيل الإسلامي والصادرين عن دار نيرفانا لصاحبها الصديق حافظ بوجميل .
كما كان من الممكن اختيار الرواية الجديدة والضخمة لحسنين بن عمو بعنوان «الموريسكية» بجزءيها والصادرة عن دار نقوش عربية لصاحبها الصديق المنصف الشابي.
كما كان من الممكن لي التوقف عند إحدى روايات دار النشر مسكلياني لصاحبها الصديق التيجاني زايد والتي اكتسبت شهرة كبيرة في فترة قصيرة بفضل قيمة الروايات التي نشرتها وآخرها «دفاتر الوراق» للروائي الأردني جلال برجس والتي تحصلت على جائزة البوكر العربية لسنة 2021 أو رواية «قيامة الحشاشين» لصاحبها الهادي التيمومي والتي تحصلت على جائزة الكومار لسنة 2021.
كان لكل هذه الكتب وقع على عقلي وفي نفسي إلا أني اخترت كتاب «عزيزتي حورية» للشيخ الطرودي ككتاب حدث لهذا المعرض .
• «عزيزتي حورية» تأسيس لمرحلة جديدة من الأدب السجني:
صدر كتاب «عزيزتي حورية» للمناضل السياسي والصحفي اللامع المرحوم الهاشمي الطرودي عن دار النشر نظر للصديق الجامعي والناشط الثقافي عبد الكريم قابوس .وقد قام الناشر بعمل جبار إلى جانب حورية الطرودي زوجة المرحوم الشيخ وخاصة الأستاذ صالح البكاري امتد على سنتين لتحقيق وتدقيق هذا الكم الكبير من الرسائل .
وقد اخترت هذا الكتاب ليكون كتابي الحدث من هذا المعرض لعديد الأسباب لعل أولها شخصية كاتبها ومساره السياسي والتاريخي .إذ أن الهامشي الطرودي أو الشيخ كما يسميه أصدقاؤه أصيل مدينة نفطة وكان من القيادات الأولى لحركة «برسبكتيف» أو آفاق منذ نهاية الستينات .وعلى خلاف كل زملائه ورفاقه في الحركة الذين زاولوا تعليمهم في المدارس والجامعات الحديثة كان الهامشي الطرودي من الوحيدين إلى جانب صهره محمد بن جنات ممن زاولوا تعليمهم في المدارس القرآنية ثم في جامع الزيتونة حيث شهد له الجميع بنبوغ وتميز دراسي مكناه من النجاح في الأهلية والتحصيل في سن صغيرة .
ثم كان للهاشمي الطرودي دور سياسي كبير حيث كان من أبرز مناضلي حركة آفاق/ برسبكتيف ليعرف السجن في عهد الرئيس بورقيبة ثم التضييق والمحاصرة في عهد الرئيس بن علي .
كما اصبح الهاشمي الطرودي من أهم المحللين السياسيين ولعب دورا كبيرا من خلال كتاباته في عدد من الصحف وآخرها أعمدة جريدة «المغرب» حيث كان أحد كبار المحللين .
وقد أصدر الهاشمي الطرودي عديد الكتب منها «مأساة بغداد» و«كتاب الأحياء» و«أضواء على اليسار التونسي» و«المشهد السياسي بتونس (1960 - 2015) في البحث عن كتلة تاريخية جديدة» و«الإسلام السياسي في تونس: هل من خصوصية ؟».
كان للمسيرة السياسية والفكرية للهامشي الطرودي تأثير اختياري في اختيار كتابه «عزيزتي حورية»ككتاب حدث باعتبار انه يقطع مع كتاباته السياسية السابقة فقد خاض في كتابه ذاتية تعبق بالشاعرية والعشق .
أما المسألة الثانية والتي دفعتني لاختيار هذا الكتاب ككتاب حدث فهي المرحلة الجديدة التي فتحها في الأدب السجني .لقد عرفت بلادنا بروز هذا النوع الأدبي كالعديد من البلدان العربية منذ نهاية السبعينات .وكانت رواية «كريستال» لجلبار النقاش والتي صدرت في بداية الثمانينات نقطة انطلاق هذا النوع من الكتابة .وعرف هذا النوع الأدبي تطورا كبيرا من خلال عديد المساهمات من مشارب سياسية مختلفة لعدد كبير من المناضلين الذين عاشوا التجربة السجنية اذكر من بينهم محمد صالح فليس وفتحي بلجاج يحي والشريف الفرجاني وعزالدين الحزقي وغيرهم ..
وكانت الكتابات الأولى تصور هذه التجربة السجنية في نواحيها المظلمة للمسار المرعب للمساجين بين الزنزانات والتعذيب وقسوة المحققين .كما أشارت هذه الكتابات إلى النضالات التي خاضها هؤلاء المساجين من أجل تحسين ظروف إقامتهم في السجن .
ثم بدأنا نشهد منذ مدة بروز مرحلة جديدة في هذا الجنس الأدبي مع بروز كتابات موغلة في الذاتية تحاول الغوص في العواطف والأحاسيس التي تتملّك المساجين في هذا التجربة القاسية .
وفي رأيي يشكل كتاب «عزيزتي حورية» للهامشي الطرودي مساهمة هامة وأساسية في هذا التحول الذي عرفه الأدب السجني حيث طغت العواطف والأحاسيس والذات على عذابات وقساوة التجربة السياسية .
• في منهجية الرسائل السجنية:
لا يمكن الحديث - في تقديري -على منهجية في هذا الجنس الخصوصي داخل الأدب السجني وهو مجال الرسائل السجنية .إلا أن مطالعة بعض التجارب في هذا المجال ومن ضمنها رسائل نلسن مانديلا إلى زوجته ويني وأشعار ناظم حكمت من السجن وكذلك رسائل انطونيو قرامشي وفاكلاف هافال وغيرها من التجارب فانه يمكن لنا التوصل إلى نتيجة أشار إليها الناشر عبد الكريم قابوس في تقديمه وهي وجود كتابة وخطوط منهجية كبرى في هذا المجال .فهذه الكتابة تتميز بالدقة والاقتصاد في الكلمات نظرا الى أن عدد الصفحات المسموح بها للمساجين محدود جدا .كما تتميز هذه الكتابة بتداخل المشاعر والحساسية المفرطة تجاه الحبيب وفي نفس الوقت بعض من التحاليل السياسية وبعض الدعابة والفكاهة للحدّ من هذا الانغلاق الموحش والغربة الداخلية والبعد الذي تفرضه الزنزانة .
ونجد عند الشيخ الطرودي هذا التداخل بين العواطف العارمة والتحليل العقلاني والبحث عن القرب والتواصل مع الآخر من خلال الصفحات التي كان يخطها في الليل على سريره عندما كانت تهدا الحركة ويخضع زملاؤه ففي الزنزانة للنعاس .
في هذه اللحظات الموغلة في البعد فاضت عواطف الشيخ الطرودي ، المناضل الصلب،بطريقة جياشة نحو الحبيبة .فناجها بكلمات كلها شوق وعشق حيث قال «حبيبتي العزيزة ،كما قلت لك أني استمتعت برؤيتك طيلة أيام المحاكمة بمتعة وأي متعة ،وعبرت لك عيناي بكل ما يفيض به قلبي من حب وحنان يغمرك من أعلى راسك إلى أسفل قدميك» (ص27).
وفي رسالة أخرى يضيف «منذ الرسالة الأخيرة المؤرخة في 19/10 لم اتصل منك برسالة آمل أن تكون رسائلك الجديدة في الطريق،على كل مازلت أتغذى بهذه الرسالة أشتم منها راحتك وألمس فيها خفقات قلبك،أما عن الصورة فلا تسأليني فإنها نعم الحبيب فكم أثارت في نفسي لواعج الشوق والحنين ،وكم بدت لي شهية حلوة طعم الحرية،تراودني من خلالها أعذب الألحان والأحلام فتراها أمامي يا حبيبتي كأرض الربيع مزهرة خضراء ،من شموس عينك أحس حرارة الحياة ودفئها،ومن ثراء شعرك تندفع ذكريات حياتنا بكل ما فيها»(ص 29).
ويتواصل هذا المدى من العواصف الجياشة وكلمات العشق والوله في كل رسائل الشيخ الطرودي .ثم عندما يصل الولع مبتغاه يمر السجين إلى الحديث عن حياة السجن وطريقة تنظيم الحياة اليومية خلف الأسوار .وتكاد لا تخلو أي رسالة من الحديث عن هذه المسألة.فيشير في إحداها «إننا نعيش في غرفة شبه مربعة ،توجد في الزاوية المجاورة لباب المرحاض وقد التصق بجدارها الخلفي حوض الاسمنت وهو حوض مربع الشكل ليستعمل لخزن المياه ،وبها نافذتان صغيرتنا مسيجتان بالقضبان الحديدية بالإضافة إلى كوّة صغيرة «(ص34) .
ويضيف في رسالة أخرى «فإذا فصلت الحصة الزمنية المحدودة التي تقضي في الآرية فإن بقية ساعات اليوم تمر بين هذه الجدران الحبيسة الصامتة فلتقطع الغرفة جيئة وذهابا لتنتهي بغسل الأدباش أو بتنظيف أواني الأكل الذي لم يعد واجبا ثقيلا مضجرا كما هو الشأن لديكم «(ص23) .
وينجح الهامشي الطرودي في كلمات بسيطة في تصوير الواقع المفزع الذي يعيشه السجناء لسنوات طويلة وراء الجدران .
إلا أن السجين لا ينسى في رسائله الجوانب السياسية ليعود ويناقش حبيبته في قضايا سياسية متعددة نذكر قضية المرأة – ويشير في إحدى رسائله « تعكس عديد الأمثال البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الذي تسوده المفاهيم الاقطاعية لعلاقة المرأة بالرجل – فمن البديهي أن المفهوم الأساسي الذي تنطلق منه هذه المجتمعات يتمثل في الفكرة الموروثة من أن المرأة كائن منحط بالنسبة للرجل ،وان هذا الانحطاط لا جذور له في طبيعة تكوين المرأة «(ص23).
ويضيف الهاشمي الطرودي إلى هذا الجو الشاعري المرهف،والسياسي شيئا من النكتة والدعابة الجريدية في العديد من رسائله .كان يقول مثلا في إحداها «لا تستغربي ..فانا اكتشفت عذوبة صوتي أثناء المدة التي قضيتها معزولا ومجردا من الكتب،لقد كنت اقضي وقتا طويلا في الترنم والغناء ،ذلك الصوت المنكر الذي تعرفينه يبدو لي عذبا وحلوا «(ص70).
ولعل أهم مسألة يقف عندها الهاشمي الطرودي في العديد من رسائله هي أهمية الكتابة والقراءة والفكر في فك عزلة السجين ووحدته .فيقول مثلا في إحدى رسائله «الرسائل في عالم السجن من الأحداث التي يهتز لها ، حيث تتراءى من خلالها صور الحياة خارج هذا العالم الضيق ، وخاصة رسائلك يا عزيزتي ،اني اجد كل كلمة مثقلة بإحساسك ، مليئة بحبك، معبرة عن صبرك وشجاعتك في مواجهة مشاكل الحياة القاسية التي سببها لك الفراغ والعزلة بوجودي في السجن «(ص32).
إن كتاب الشيخ الطرودي «عزيزتي حورية « إبحار في ذاكرتنا الجمعية والتجربة السجنية بطريقة مرفهة وذاتية فيها الكثير من نبل المشاعر والعواطف الجياشة .وهذه الكتابات الذاتية تنضاف إلى الدراسات التاريخية العلمية وغيرها من الانتاجات الفكرية والإبداعية لترسم لنا صورة عن مسيرتنا وتجربتنا المشتركة بآمالها وأفراحها كذلك بانكساراتها .وقد مكنتنا الحرية التي أتت بها الثورة في إمكانية الغوص فيها بطريقة هادئة وسلمية لأخذ الدروس لبناء المستقبل وخاصة تفادي الرياح العاتية وهدير الأمواج المتلاطمة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115