أشياء فلسفية: «مزطولون» .. في جمهورية أبولّون

ثمّة في كل بحث عن نشوة السّكر ضرب من إرادة خروج الفرد عن فرديته. نيتشه، في مقام غير بعيد، تحدث عن الديونيزوسي على أنه عنصر الانتشاء (ivresse)

الذي يتزلزل فيه مبدأ الفردية (Principium individuationis) أعني مبدأ شعور الإنسان بنفسه فردا، حين يتحلل الفرد من كل امتلاك لنفسه، ويغادرها مغادرة. تحدث نيتشه عن ذلك وهو يضع في معارضته مبدأ الأبولوني، هذا الإنسان النظري، الذي يرى، ويعكس رؤياه على صفحة نفسه مثلما تنعكس في الحلم أفكارنا وآمالنا، رغبات، قد تكون عسيرة المنال، ولكنها قابلة للتشكيل، منبسطة على سطح الخيال مشدودة بأوتاد الاشتراع الهندسي (projection géométrique) وإحداثيات المراجع النهارية.
من الطبيعي جدا أن يحلم الفرد، من الضروري أن يسافر بخياله إلى آفاق الممكن. كل ممكن هو إسقاط هندسي على صفحة المستقبل التشكيلية: كل ممكن مجاوزة للواقع تلتف فيها الساق بالساق. كل ممكن هو حلم، وبناء لأمل لا نكاد نشكّله حتى تمتد خيوطه إلى المعطى لتنبُت فيه، ولو كان نبوتها عقوقا وانقلابا عليه، بل حتى لو كان هدما وتقويضا. ألم يصرخ أبو القاسم في واقع شعبه :
أيها الشعب: ليتني كنت حطابا
فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سالت
تـهد القبور رمسا بـرمس
ليتني كنت كالرياح فأطوي
كل ما يخنق الزهور بنحسي
ليتني كنت كالشتاء أغشي
كل ما أذبل الخريف بقرسي
ليت لي قوة العواصف يا شعبي
فألقي إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير إن ضجت
فأدعوك للحياة بنبسي
ليت لي قوة الأعاصير .. لكن
أنت حي يقضّي الحياة برمس

إن حلم الشاعر الذي يردده تواتر حرف «الحلم» (ليت)، حلم يثبّت قدميه في فرديته: لا يمكن أن يكون حطّابا من لم ينبت إلى جانب الجذوع مطاولا لها جذعا جذعا، واقفا حذوها كالعمود القائم. فلتجتمع قوى الطبيعة ولتحمل السيول الجارفة، ولتهب الرياح، وليهطل المطر، ولتثر العواصف، ولتضج الأعاصير، لن تكون في هياجانها وسيلانها وثورانها إلا روافد تصب في مهجة الفرد الذي يمتلئ بها ويغير، محققا بذلك نبوءته وحلمه. ليس الحلم، على الحقيقة، ميعة إذن وانحلالا، بل هو تكتيل لروافد العزم، واكتناز لها، بهما يجد الفرد من نفسه معوَّلا، بل بهما يستجمع شظايا نفسه من التلاشي.
ما الذي تغير حتى باتت الفردية نشيد الشاعر الحديث؟ ألم يصرخ شعراء الجاهلية ومن جاء بعدهم صرخة الأنا؟ وهل الفردية إلا إعلان الإنسان نفسه «أنا»: «أنا الرجل الضرب» في ما صرخ طرفة: قبالة عناصر الطبيعة يقول الشاعر نفسَه، وحلمُه أن يقهرها. أما ما يحلم به الأنا الحديث فأن يتقوم بتلك العناصر، وأن تكون فرديتُه بها، من حيث هو الجامع لها في نفسه.

وأما النشوة الديونيزوسية، في سكرة الفرد، فإنها انحلال له ضمن عناصر الطبيعة، ومنشوده أن يتحد بها، لا أن يستجمعها في نفسه مقوما لفرديته. إن نمط الكيان السياسي، الذي تنتظم به المدينة وفق مبدإ يحكمها، هو مهما قلّبنا المناويل، نمط أبولوني. ليس منوال الحلم هو الذي يتعارض مع الانتظام السياسي للأفراد، وإنما يتعارض معه منوال الانحلال الديونيزوسي. إن فكرة الدولة، في أسسها الأولى، وفي تطوراتها التي مرت من خلالها إلى أشكالها الحديثة وفق براديغمات مختلفة، هي فكرة أبولونية تقوم على أنموذج نظري يحكم نظامها. ولعل أهم مقوم من مقوماتها فكرة الفردية. ولذلك فإن أي مشروع سياسي يرمي إلى تعضيد الدولة لا بد له أن يحمل الأفراد فيه إلى تخيل ما يصيرون إليه، وحض الإرادة على الحلم به، أي على رسمه ورسم الطريق إليه. وفي مقابل ذلك فإن أي مشروع يرمي إلى انحلال الدولة القائمة على معقولية ما، إنما هو مشروع يضرب فكرة الفردية فيها، سواء أكانت تلك الفرديةُ هي الفرديةَ القديمةَ، المحاكيةَ لنظام الطبيعة، والمتقوّمةَ بحسب مدى تماثلها مع «نظام العالم» (حسب العبارة الشهيرة لبيير دوهام) باعتباره معقولية يتعلق الأمر بتجسيدها، أم كانت هي الفرديةَ الحديثةَ المتمثّلةَ لنظام العالم وفق الأنموذج الفيزيائي الرياضي، القائمِ على تمثيل الأفراد عن طريق الانتخاب الديمقراطي.

لس صحيحا أن القوى السياسية الدينية قد خلقها اضطهاد الدكتاتوريات.. فمشكل هذه القوى ليس تسلط الأنظمة وإنما نمط كيان المجتمع وأسلوب عيشه اليومي. لذلك فإنّ الحرية والدّيمقراطية لا تقنعانها، لأن سؤالها واعتراضها حتى وهي في الحكم هو اعتراض على نمط وجود «اللادينيين» (أعني الذين لا يجعلون من تعاليم دين ما نمط التنظيم السياسي لمجتمعهم)، ولسان حالها الحقيقي ليس لاعتراض على اضطهادها ومحاصرتها وإنما هو رفضها لأن يكون الناس غير ما تفرضه عقيدتهم، رفضها أن لا تكون المجتمعات تحقيقا للغاية المتعالية من الخلق، أو لما يرون أنه هو تلك الغاية. ولذلك فالديمقراطية عندهم لا يمكن أن تكون إلا الأداة المؤقتة للتمكن من الحكم. ولكن الذي يعتقد أنه يمتلك الحقيقة لا يمكنه أن يتحمل أن يداخله الشك فيها ولا في ضرورتها لغيره. إن شرط إيمانهم ليس أن يكون إيمانهم حقا لهم، وإنما أن يكون إيمان غيرهم حقا لهم أيضا، وأن يكون مضمون إيمان غيرهم على ما تقتضيه رؤيتهم لعقيدتهم . إن هذا المنفذ الذي يدخلون منه إلى ضمير الغير، ولو كان عنوة، وبطشا وإكراها، هو مطلبهم الحقيقي. ولذلك هم لا يصدقون الديمقراطية إلا قليلا، ولا يؤمنون بها إلا مؤقتا. ولذلك خاصة فإن كل مهادنة يبدونها ليست إلا مقدمة تمكين قد يتخفى وقد يأخذ عشرين لونا ولونا ولكن غايته الحقيقة هي التغلب وإقامة «الشريعة» في الأرض. لذلك لا يزعجهم فقر الناس ولا انهيار الاقتصادات ولا تفاقم الجهل بين شرائح المجتمع : فمجتمعهم هو مجتمع «الآراء»، أعني الظنون التي يقدّرون على الناس أن يؤمنوا بها، وسياستهم هي سياسة «التقدير» و»التحديد». ولا يتحمّل الناس العيش تحت حكمهم إلا لأنهم يخيلون لهم ما به يستطيعون الصبر

على الفقر وعلى المرض وعلى الحاجة. لا يوجد وعي أشد اكتفاء من وعي المتدينين. ولا يوجد وعي أبعد عن منطق الطموح والحرية والرأي الشخصي من وعيهم. إن الديمقراطية الحقيقة تقتضي انحسار الإيمان إلى دائرة الوعي الشخصي والضمير الشخصي الذي لا ينطق إلا كرأي لأنه لا يضطلع بنفسه إلا كرأي يخالطه الشك ويلازمه التواضع بعيدا عن أي ادعاء للمسؤولية على الضمائر .. أما الديمقراطية الموهومة فتتظاهر بذلك فقط، ولكنها تعمل على تغيير للعقليات (عبر المدارس والمساجد والجامعات والسياسات الثقافية والفنون) بحيث يصبح تحقيق الإيمان في الناس انسياقا منهم إليه، لكأنهم لم يمارسوا من أجله أعتى ضروب العنف، تلك التي تصبح معها الأنفس منقادة بطبعها عبر «التربية». إنّ الأمر لا يتعلق بمقاومتهم من خلال إجراء تربية مضادة قائمة على مضمون مضادّ وإنما في إقامة التربية والمدرسة في موقع لا يمكن منه لنفس المتعلم أن تتربى على الانقياد والانسياق أبدا.
إن أوفق المناهج التي يستقر بها الأمر للأحزاب الدينية هو قيام ثقافة «الزطلة» بين الصبيان والشباب لا كحرية وإنما كعقلية. وحده «المزطول» ينساق بسهولة. ووحده المزطول يمثل أنموذج المجتمع الذي يمكن أن ينفّذ «ديمقراطيا» ما يريدون. إن المزطول لم يعد اليوم هو ذاك الذي يستهلك المواد المزطلة. لقد بات هو صورة المواطن المنشود. هل سمعتم يوما بأي خطاب للقوى السياسية الدينية حول الزطلة ؟ كثيرا ما يقول المثقفون إن مضادة السياسات الدينية تكون بتكون الفرد والفردية. لم يعد هذا صحيحا. فحتى الفرد لم يعد يعترض مشروعهم ولا يعارضه، لأن الفرد «المزطول» الذي يكوّنون ويربّون ينساق دون أي إكراه

لما يريدون. إن الذين يدافعون اليوم عن «حق الزطلة» هم رمزيا أول معاول الأحزاب الدينية في تحقيق الدولة التي ينشدون، أي في تحقيق الدولة التي تقوم على انحلال الفرد ومطواعيته اللامحدودة، من أجل أن يصبح لغما متنقلا جاهزا للتنفيذ. إن إرادة الحياة هي أولا إرادة الفرد. ولذلك فإن كل فكر يضاد إرادة الحياة إنما يضاد أولا فكرة الفرد، ويذيبها بكل ما أوتي من الوسائل في دخان الزطلة، وحشيش مغادرة النفس، لا كجنوح على الهامش، وإنما كثقافة.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115