السلم والحرب في وجدان الشارع العربي

المنطقة العربيّة من أكثر المناطق التي كانت محلّ تجاذب وتنازع بين القوى العظمى وقد تعرّضت إلى حروب مدمّرة على مرّ الأحقاب، دفعت فيها شعوبها ثمنا

باهضا من الهزائم والانكسارات التي عطّلت مسيرتها في التنمية واستكمال استقلالها، وبسبب ذلك تشكّل لدى تلك الشعوب إحساس جماعي بالغبن والقهر والنقمة خاصّة أمام عجز دولها عن ردّ الفعل والثأر لها، وصار كلّما ظهر دولة أو زعيم من داخلها أو من خارجها يرفع عصا التّحدّي في وجه اعدائها تهبّ لنصرته والالتفاف من حوله. فحين وجد مفتي الديار الفلسطينية «الحاج أمين الحسيني» نفسه محاصرا ومطاردا من قبل سلطات الانتداب البريطاني خلال الحرب العالميّة الثانية وفي الوقت الذي كانت الحركة الصهيونيّة وعصاباتها المسلّحة تعزّز من حضورها وتكثّف من نشاطها، لجأ إلى هتلر يطلب دعمه، لأن الدّول العربيّة لم تكن قادرة على تقديم أي مساعدة له وأغلبها يرزح تحت الاستعمار...
ولم تتردد السلطات الاستعماريّة في استعمال التهديد والقمع ضدّ كلّ من تشتمّ عليه رائحة الخروج عن طاعتها، فلقد فرض الأنكليز على «الملك فاروق» ملك مصر القبول بإزاحة «علي ماهر» وحكومته لشكّها في وجود شبهة تعاون لتلك الحكومة مع الألمان، وخلعت سلطات الاحتلال الفرنسي « المنصف باي» باي تونس ونفته إلى خارج البلاد بعد أن وجّهت إليه تهمة التعاون مع الجيش النازي.
ولئن نجح الاستعمار في إخضاع الدّول والحكم لموقفه فإنّه لم يقدر على منع تلك الشعوب من إبداء تعاطفها مع الجيوش الألمانية واستقبالها استقبال المحرّرين، لقد تحدّث بعض من الذين عايشوا تلك المرحلة عن أجواء التّفاؤل والاستبشار التي عمّت البلاد التّونسيّة وعن انبهار الناس باسم هتلر وبما كانوا يسمعونه عنه من قوّة وجبروت وقد تردّدت ملزومة شعبية في بعض القرى تتغنّى به وبالألمان: «للمان جانا يا ربّي وتكون معانا، للمان جانا وفرانسا مشات للجبانة، هتلر الغالي يا يُمّة ، هتلر الغالي لنكليز لتالي يجري ....عريانة».
وقد أُضطرّ الزعيم الحبيب بورقيبة إلى توجيه نداء من منفاه للشعب ولقادة الحزب الحر الدّستوري لوقف الانسياق وراء ذلك التيّار الجارف الذي يمكن أن يحدث ضررا فادحا للقضيّة التّونسيّة، لأنّه كان متأكّدا من هزيمة ألمانيا وانتصار الحلفاء كما جاء في إحدى خطبه.
إثر نكسة حرب جوان1967 التي اهتزّ لها كلّ الوجدان العربي وجدت الشعوب العربية في سقوط «بنوم بنه» و»سايغون» وهزيمة أمريكا في حرب الهند الصينية خير بلسم للجرح الذي خلّفته فيها هزيمة 1967 ولو أن ذلك حصل على أرض غير عربيّة وبأيد غير عربيّة المهمّ. وقد ترجم ذلك الشعور المغني الشعبي الشيخ إمام عيسى بقوله « يا فلسطينية فيتنام عليكو بشارة، بالنصر طالعة من تحت ميت ألف غارة، والشمعة والعه، والأمريكان بالخساره، راجعين حيارى عقبال ما يحصل معاك»
ولمّا رفع صدّام عصا التّحدّي في وجه أمريكا وحلفاءها واحتلّ الكويت وأعلن استعداده محاربتهم جميعهم وتدمير إسرائيل، اشتعل الشارع العربي حماسا وانتشى بما كان يروج حول القوّة الأسطوريّة التي يمتلكها العراق والتي تمكّنه من دحر أعدائه وهزمهم، لقد آمنت تلك الشعوب بظهور الزعيم المنقذ وأنّ ساعة الخلاص قد حانت و»أمّ المعارك» ستقلب موازين القوى في العالم وتعيد للأمّة أمجادها ، لكن النهاية التي عرفتها تلك الحرب فتحت أبوابا جديدة في الجحيم الذي تمدّدت نيرانه لتكتوي بها شعوب أخرى بالمنطقة.
لذلك ليس مفاجئا اصطفاف الرّأي العام العربي إلى جانب روسيا في غزوها لأوكرانيا، فرغم كلّ التّغيّرات «الجغراسياسيّة» التي حصلت بالعالم لم تتغيّر نظرة الشعوب ولا النّخب لأمريكا كشريك رئيسي لإسرائيل في جرائمها ضد الفلسطينيين والعرب والمسؤولة عن تدمير العراق وليبيا وسوريا والعائق أمام الفلسطينيين لنيل حقوقهم.
العقل العربي الذي يرزح تحت ذاكرة مثقلة بالمآسي ليس مهيّأ للتّحوّل إلى البراغماتية ...براغماتيّة ينظر بها إلى الحرب بمنطق العمليّات الاقتصادية والتّجاريّة والرّبح والخسارة بعيدا عن الدّوافع الأخلاقية والإيديولوجية، فلا دولة عظمى تغامر بالدّخول في حرب لا مغانم فيها وأوّلها أمريكا، لذا فإنّ التّموقع في الحروب صار يُحسب من زاوية المصالح وليس من زاوية المبادئ، وانتظار الرّأي العام العربي أن يؤدي انتفاض روسيا ضد حلف الناتو وإقدامه على غزو أوكرانيا إلى عودة الثنائية القطبية أو تعدّد الأقطاب يغلب عليه طابع التمنّي أكثر من التوقّع المبني على معطيات موضوعيّة، بما أنّ الدّبّ الروسي بعد أن غيّر فروته السوفياتيّة لم يعد يحارب من أجل «التّضامن الأممي» ونصرة الشعوب كما كان يقال أيّام «الاتحاد السوفياتي»، وحربه من أجل مصالحه القوميّة لن تجعله يبتعد كثيرا عن المنظومة العالميّة بهيكلتها الحالية بما أنّ المخاض الذي يمرّ به العالم لم ينضج بعد لدرجة تغيير الموازين السائدة فيه.
في الوقت الذي تتهيّأ فيه الدول والتّجمّعات الإقليمية للتعاطي مع نتائج ما بعد الحرب ، يسقط الجانب الرّسمي العربي في شبه غيبوبة، فلم نسمع صوتا للجامعة العربيّة ولا دعوة لاجتماع لتقييم انعكاسات الحرب على مصالح الدّول خاصة وأنّ الدّولتين الرّوسيّة والأوكرانية تعتبران المصدر الرّئيسي لأغلبها في اقتناء حاجياتها من القمح والحديد وكلاهما تمثّلان قبلة للطلاب العرب من مختلف البلدان لمواصلة دراستهم. والأخطر من الحرب هو مرحلة ما بعد الحرب وما سيحصل من تغيّرات على خارطة العالم سواء أفضت إلى تثبيت القطب الواحد أو إلى تعدّد الأقطاب، فمن المستبعد أن يغير ذلك الشيء الكثير من واقع العالم العربي ما دام عقله الجماعي يستبطن التّذيّل لهذا القطب أو ذاك.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115