الخوف جنسا ثالثا من أجناس الكتابة فيه؟ أم هو مجرد تعديل يطرأ على إحدى كيفياتها؟ أم هو دخول بها في منطق آخر يمكن أن يمثل حامل الإبداع وسداته التي ينكتب عليها.
إن أول ما يمكننا أن نستغل فيه سرديات الخوف القديمة هو بنيتها العامة. إنني لا أتحدث إذن عن «شعور» الخوف، ولا أعالجه من وجهة نظر كيفية تظهره في الوعي. وإنما أتحدث عن كيفية سرده. فالبنية المقصودة هي إذن بنية سردية الخوف. وسيكون مادة معالجة مثمرة أن نواجه بنية وجدان الخوف مثلما تتجلى في المقاربات الفلسفية وبنية سردية الخوف مثلما تكتب في النصوص الروائية. إن ذلك هو الموضع الذي تريد هذه الورقة أن تعثر فيه على ما سميته «نيابة الخيال عن الذّاكرة». ويعني هذا أنّ أول اضطلاع بالخوف ضمن الكتابة السّردية هو اضطلاع تتعهّد به الذاكرة. ولكن الذاكرة ليست سوى استعادة خيط حدوث للخوف، مما يعني أننا بمحضر لحظات ثلاث يمكننا أن نرتبها كما يلي:
- تجربة الخوف: ونعني بها وقوع حدث الخوف. ومرجعي في هذه الحال هو نظريات الخوف الفلسفية التي تتمثل في رفع حدث الخوف وحتى ذاكرته إلى مستوى مفهومي لا يقوم على التذكر وإنما على التعريف أعني على تحسس صيغة مجردة للحظات الخوف ومكوناته.
- ذاكرة الخوف التي هي استرجاع واستعادة عفوية تلقائية تثيرها جدّة الوقوع وحدة الإحساس الذي يحيل دائما على سببه كسلسلة من «الانطباعات الحية» (vivid impressions) كما كان يقول هيوم، وتسعى إلى أن تكون أمينة قدر الإمكان لحدث الخوف وتسلسل لحظاته وتلوّن محتويات الإحساس به، على أنها على قدر التقادم تحول الذكرى إلى فكرة، فتذوي حرارتها، وتخفت حدتها، وتأخذ طريقها إلى السرد.
- وأما اللحظة الثالثة فهي تحديدا لحظة سردية الخوف التي تُثَلِّث مرجعيّتَها (référence triadique ) بحيث تأخذ أولا من حدّة الحدث الذي تحاول أن تستعيده وتتذكّره «كما هو» لأنّه هو مادة السردية الخامُ ووقودها الدافع والمحرك، وثانيا من ذاكرة الخوف التي وجدت من الوقت ومن السعة ما رتبت به تسلسل حدث الخوف بحيث يصبح قابلا للتذكر وفق القصود والنوايا والأسباب واللواحق، وثالثا من خيال الخوف الذي يأخذ من معنى الخوف، ومن وقعه على النفس وخاصة بإبراز حدته وتضخيمها، ويأخذ خاصة من علاقة التلقي التي تترجم الخوف من تجربة شخصية إلى تجربة يراد بها التأثير في نفس المتلقي لها. إنّ هذا المرجع الثالث هو الذي ينقل الحدث من حدث عارٍ يحصل كحدث، إلى حدث مكتنز بالمعنى يحصل كتأثير أي كتخييل ينجم عنه استحواذ على المتلقي، واشتراك معه عن طريق الاقتسام والتعاطف والاستشعار والانتقال الحدسي والخمْني إلى شعور الآخر عبر استحضار نفس ما يستحضر.
1 - حدث الخوف وتجربته
أعني بـ»حدث الخوف» وقوعه وعناصر ذلك الوقوع. ويمكن لهذا الغرض أن نعود مثلا إلى أرسطو في الفصل الخامس من الباب الثاني من كتاب الخطابة (وهو مرجع كل المقاربات الحديثة والمعاصرة للخوف بما فيها مقاربات هيدغر وسارتر) . فتتحدد بنية الخوف ضمن هذه المقاربات وفق أربعة عناصر هي:
1 - «ما هو» الخوف، أعني طبيعة الإحساس أو الوجدان الذي يمكن أن نسميه خوفا. فليس كل تغير خوفا. وهذا الإحساس في تعريف أرسطو هو «حزن أو اختلاط» في معنى التشوّش والاضطراب والاختلال وانقلاب المزاج وفورانه.
2 - طبيعة الديمومة التي تسبق الخوف: ولا نعني بها شعورا مخصوصا بالزمان في معنى الديمومة البرغسونية مثلا أو الأوغستينية، وإنما امتداد زمان لا يحتوي على أي شعور بإمكان حدوث اللاّمتوقع. الديمومة الأولية هي امتداد زمان الحدوث المألوف للأشياء، وأعني بالمألوف حدوث الأشياء مثلما يعتاد لها أن تحدث. يمكن لهذه الديمومة أن تكون ديمومة تأمل رومنتيقي لمشهد غروب مثلما يمكنها أن تكون ديمومة رتابة عمل يومي متكرر...
3 - ما عنه يكون الخوف، صدورا عن تخيل، أو كما كان يقول الفلاسفة القدامى عن «توهم».
4 - ما منه الخوف (المخوف): فهو خوف من شرٍّ إمّا مهلكٍ أو مؤذٍ ومؤلم
5 - صيغة المعرفة بذلك الشر: أعني التأكد أو شبه التأكد، التوقّع المرجَّح، رغم أنّ الشر في حد ذاته لم يقع بعد فعلا.
2 - سردية الخوف أو في تخييل التخييل
ليس سرد الخوف حكاية موضوعية لوقائعه. إننا عندما نقص على الآخر حكايتنا مع الخوف، نقحم عناصر تقييمنا الذاتي لتتابع الأحداث، مما يدخل على واقعة الخوف التغيرات التالية:
- ترتيب الوقائع: ذلك أن سرد الخوف يعمد من أجل تحصيل وجاهته المخصوصة إلى ترتيب الحكاية ترتيبا يختلف إن قليلا أو كثيرا عن كيفية وقوعها. وليست الغاية من ذلك تحريف الحكاية وإنما بناء منطق يجعل بعض عناصرها سببا للعناصر الأخرى، أو هو يهيئ إلى بقية أطوار الحدث مما يجعل السارد الرئيسي، يتدخل كضرب من ثنائية الشاعر والممثل في الترجيديا الإغريقية من جهة، والسارد «الخفي» يتدخل كضرب من الجوق، أو المتفرج المثالي في نفس تنصيبة التراجيديا الإغريقية: فأبو زبيد الطائي (في ما رواه الجاحظ مثلا في المحاسن والأضداد) يزيّد وجدان الخوف بتأويج مشهد هجوم السبع من خلال الوصف الذي يعتمد خاصة الإحالة على عناصر المهول والفاجع والمروّع: ويمكننا أن نلمس ذلك في إحصاء عناصر وحشية الهجوم وعدم مناسبة السياق لأي صمود أمامه، وتدريج تهالك عناصر المشهد، وتسرب الخوف حتى إلى العناصر غير الإنسانية، وتزييد درجة الرعب والتركيز على مواجهة الموت العنيف والوحشي، وتعديد لحظات الفقدان التام للأمل في الإفلات من المخوف، وإحالة الوصف على تشبيهات مرعبة.
ولكن السارد الخفي يتدخل (من طريق غير مباشر ) من جهة أولى لتهدئة القلوب بطلب الكف عن سرد وقائع الحكاية، ومن جهة ثانية للتذكير بأنّ الخوف ليس سوى «حكاية» خوف بعد أن كاد يتمكن من «قلوب» السامعين كخوف يحيط بهم حقا، أعني كفرجة على خوف تحولت إلى عدوى خوف.
إن بناء مشهد الخوف بالعناصر التي استعرضنا لا يندرج في باب تذكر الخوف، والإخبار عنه، وإنما في باب تخييله تخييلا يستأنف ما تخيله شخوص الرواية، ويتوسل بأدوات الترويع السردية لمد ذلك الخوف، ولكن بأكثر هولا، إلى قلوب السامعين.
ولكن اللافت في هذا ليس تخييل الوقائع، فكل سرد، وليس سردُ الخوف فقط، هو تخييلٌ للوقائع. ما يختص به سرد الخوف، وما تظهر فيه نيابة الخيال عن الذاكرة هو أن الخوف يحتوي – من جهة ما هو حدث على مقطع تخيلي (هو تخيل الشر الذي قد يقع). مما يجعل سردية الخوف باضطلاعها التخييلي بواقعته تعمد إلى تخييل التخيل. وتلك هي صعوبة سردية الخوف بالنظر إلى السرديات الأخرى. إن سردية الخوف تنيب عن ذاكرة التخيل، باعتباره مقوما من مقومات الخوف نفسه، تخييلا لذلك التخيل الذي يصاحب تهيّب اللاّمتوقّع ضمن دائرة الحدث نفسه . إن هذا السرد يلتقي مثلا مع سرديات الحلم، كتخييل مضاعف، مادام الحلم هو نفسه تخييلا لواقع، ومادم سرد الحلم تخييلا لذلك التخييل. ولعل هذا التخييل المضاعف هو الذي يأخذ السامع أو القارئ أو المشاهد إلى أن يصبح حالما هو نفسه، أو خائفا هو نفسه، ولكن من درجة ثانية: لا يلحقه الخوف الذي خافه الخائف، ولا يسحبه الحلم الذي حلمه الحالم، وإنما هو – إذا سمحتم بالعبارة - حلم حلم، وخوف خوف.
إن هذا التشكل التخييلي الأقصى هو الذي يجعل «السارد الخفي» يتدخل ،كالجوق في مسرح الإغريق التراجيدي، ليذكّر بأن رعب السامعين لا ينبغي أن يذهب بقلوبهم، فهو رعبُ حكايةٍ، وليس انجرارا إلى مشهد حقيقي.
إن مشهد الخوف لا ينبغي أن يَحمل، أن يَجرف، أن يَدك، الجمع ممن يسمعون أو يقرؤون سرديته. ولعل ذلك هو ما تتمثل فيه «أبولونيته»: هو ضرب من «الأنا» في نظرية الحلم الفرويدية يتدخل لطمأنة النفس بأن الكابوس الذي كاد يعصف بها هو حلم وليس واقعا، بل بأنه يمكننا حتى أن نعود إلى الكابوس بعد أن هدأ الخوف وسكن الرعب بهذه الطمأنة: «إنه حلم، في عبارة نيتشه الشاب، فلنواصل الحلم». هكذا يقول نيتشه: «لا شك أن أكثر من واحد فينا يتذكّر أنه استطاع في بعض الأحيان أن يقول لنفسه مؤازرة لها في خضمّ حلم يتوالى فيه الهول والهلع : إنه حلم، فلأستمرّ في الحلم».
أما في القصة الحديثة فلا شيء يهدّئ من روعك إلا الصفحة الأخيرة، وحتى الصفحة الأخيرة فإن فيها لريبةً وشكّا إذ هي تقطع حبلا كانت تدليه لك ليشدك: فإما أن تهوي إلى الفراغ السحيق، وإما أن تواصل كابوس الخوف في نفسك لأيام وليال.
إنّ هذا التّشكّل الحديث لسردية الخوف هو الذي بات يمثل طابعه الدينونيزوسي .. أعني طابعه الذي يتماهى به القارئ مع الخائف حتى يفقد فرديته وتندك الأرض والقواعد جميعا من تحت أقدامه.
ذلك ما سأجري عليه لاحقا قراءتي ضمن نصوص سردية ثلاثة من أكثر نصوصنا الراهنة حدسا بخوفنا اليوم كإنسانية، وبضياع جميع إحداثياتنا ومراجعنا: إن حدس النصوص الأدبية بحقيقة مفهوم اليوم هو ما أسميه «شاعريتها» لا في معنى انتمائها إلى الجنس الشعري وإنما في معنى اقتسامها مع العالم حقيقته الفاجعة اقتساما ليس أدل عليه مما تؤديه عبارة التعاطف: اشتراكا في أثره فينا وعلينا، أعني تأثرا وتكبّدا متساويا منه: Sympathie - في اليونانية القديمة: « التحمّل معًا» (subir ensemble).