وعيه بين أسوار المنظمة التزام الموضوعيّة وعدم الانزلاق في الأحكام الذّاتيّة. لكنّي قرّرت في النّهاية الخوض في هذا الأمر شديد الحساسيّة لقناعتي بأنّ البلاد مازالت تحتاج إلى اتحاد قوي ومتماسك أكثر من أي وقت مضى، وأعتقد أنّ ذلك «الكيان التاريخي» الذي قفز فوق العواصف مازال يحير المهتمين بالشأن النقابي لامتلاكه القدرة على تصدر المشهد الوطني والتأثير في الحياة العامة بينما تصارع نقابات عريقة في العالم من أجل البقاء.
وبمناسبة انعقاد المؤتمر الخامس والعشرين عاد الاتحاد إلى صدارة اهتمامات الرّأي العام والملاحظين في الدّاخل والخارج، وانطلقت التّكهنات والحديث عن المخاطر التي يحملها المؤتمر وإحتمال حصول شرخ عميق في الصفّ النّقابي وإضعاف وزنه والحدّ من دور المنظمة على السّاحة السّياسيّة بسبب الصراعات الحادّة الدائرة بين القيادة النّقابيّة ومنافسيها حول تحوير الفصل 20 الذي يمكّن القيادة من إعادة ترشّحها للمكتب التّنفيذي.
بالتّأمّل في تاريخ الاتّحاد، نجد أنّ الصراعات والمناورات والمعارك الانتخابية لم يخلُ منها أي مؤتمر وشكلت سمة من السّمات الطاغية على العمل النقابي ومحرّكا من محرّكاته وتجديد عناصر قوّته، فخلال الخمسينات من القرن الماضي شهد الاتحاد مواجهة حادّة بين الثالوث القيادي لتلك المرحلة «الحبيب عاشور وأحمد التليلي وأحمد بن صالح» من اجل الفوز بقيادته. لكنّه لم يؤثر على الهوّيّة الخاصّة التي نحتها الاتحاد صلب الحركة الوطنيّة ولم يُنقص من دوره كشريك متميز للحزب الحر الدّستوري في مرحلة بناء دولة الإستقلال ووضع اُسسها، وذلك من خلال انتخابات المجلس القومي التأسيسي تحت غطاء «الجبهة القومية» ودخول المنظمة في أوّل حكومة بعد الاستقلال.
وفي سبعينات وثمانينات القرن الماضي المرحلتان اللّتان شهدت فيهما البلاد أشد الازمات بين السلطة والاتحاد وفك الارتباط التنظيمي مع الحزب، عالج الأمين العام الحبيب عاشور الصراعات الداخلية بإجراءات حادة تعتمد على إقصاء معارضيه بالتجريد أو الطرد، وسانده في ذلك شق واسع من النقابيين الذي كان يعتبر تلك الإجراءات أمرا ضروريّا لحماية وحدة الاتحاد وهويّته وإيقاف زحف التّيّارات الرّاديكالية الوافدة من الجامعة ، وسدّ منافذ الاختراق على السّلطة ومحاولاتها في السّيطرة على القرار النّقابي عبر بعض القيادات التي تنازع «الحبيب عاشور» شرعيّته ونفوذه بالاستقواء بها.
لكن في التّسعينات كان الوضع مغايرا ولم يكن هنالك تهديد للاتحاد من قبل السلطة، بسبب العلاقة الودّية المتينة بين الرئيس» بن علي «والأمين العام» إسماعيل السحباني».
وتخلّي الاتحاد على لعب دور « السّلطة المضادّة» وتحوّل إلى «قوّة اقتراح» وانخراط في دعم سياسة الدّولة، لكن في الحياة الداخلية للمنظمة ورغم اختلاف السّياقات وقع انتهاج نفس السياسة في تعزيز النفوذ الشخصي «للأمين العام» ووضع كلّ خيوط اللّعبة بين يديه، لقد تمّ استنساخ نفس الأساليب تقريبا لخلق ميزان قوى جديد يساعد الأمين العام على التّخلّص من خصومه «العاشوريين» وإخضاع الهياكل النّقابيّة لسلطته، الشيء الوحيد الذي تغير في تلك المرحلة بصفة ملحوظة هو صهر اليسار « الرّاديكالي « ضمن المنظومة النّقابية القائمة في محاولة لاحتوائه بعد الصد الذي كان يلاقيه في المراحل السّابقة، وفُتحت أمامه أبواب المكتب التـنفيذي ليتمثّل فيه « أوّل مرّة في مؤتمر الكرم1 سنة 93 .
وبذلك دخلت أغلب التّيّارات النّقابيّة اليساريّة في لعبة التّموقع وحرب حرب المواقع بعد اصطدمت محاولاتها في التّغيير بمقاومة كتلة محافظة صلبة ترفض أيّ تغيير قد يؤدي حسب وجهة نظرها إلى تشتت القرار النقابي ومن إسقاط تصوّرات إيديولوجية حزبية مخالفة للخط النّقابي التّقليدي للاتحاد والذي لم يخرج عليه منذ تأسيسه ، لكن توفّرت الفرصة من جديد للقوى الساعية لتغيير الخارطة النّقابيّة والوجهة السّياسية للاتحاد حين التقت إرادة السّلطة في التّخلّي عن حليفها الأوّل الأمين العام « إسماعيل السحباني» مع إرادة خصومه من القيادات المركزيّة والجهويّة والقطاعيّة والتّخلّص من هيمنته إزاحته من على رأس المنظمة.
لكن كشف ملف تجاوزاته الماليّة والإداريّة غير كاف لدحض شكوك المنظّمات الدّوليّة حول تورط السّلطة في عمليّة إسقاطه، وحتّي بعض الجهات الدّاخليّة كان لها نفس الشكوك، لذلك احتاجت القيادة لتشكيل جبهة داخلية نقابيّة واسعة لدعم موقفها في عزل «الأمين العام».
ولتحفيز الأطراف النقابية المناهضة للأمين العام ولتموقعه في صف السلطة، أقدمت القيادة على إقرار الفصل 10 من النظام الدّاخلي يقضي بتسقيف مدّة عضوية المكتب التنفيذي بدورتين متتاليتين وذلك لفتح المجال أكثر للتداول على المسؤوليات في المكتب التنفيذي، وإتضح في مابعد أن ذلك القرار كان متسرعا وغير منسجم مع شروط الترشح لبقية الهياكل بمأنه يقتصر على المكتب التنفيذي فقط.
ولما حاولت القيادة في مؤتمر جربة 2002 التّراجع على ذلك الفصل وتعدليه باءت المحاولة بالفشل، وفي مرّة ثانية خلال مؤتمر المنستير 2006 جوبهت نفس المحاولة برفض قطعي من المؤتمرين. وللخروج من الورطة وقع إستنباط فكرة عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي لتعديل الفصل 10، لكن ثورة 17-14 باغتت الجميع ومنعت حدوث ذلك فدخل الفصل المذكور حيز التنفيذ في مؤتمر طبرقة 2011.
واليوم يجد الاتحاد نفسه في قلب العاصفة في ظلّ الغموض الذي يلفّ المشهد السّياسي والتّوقّعات المتشائمة حول تطوّر الوضع الاقتصادي بالبلاد، وبمأنه يكاد يكون الهيكل الوحيد الذي يحظى بثقة جميع الفعاليّات الحزبية والقطاعية التي قد تقبل به وسيطا بينها وراع لحوار وطني شامل لتجاوز الأزمة التي تعصف بالبلاد، وهو ماجعله في هذه المرحلة محلّ تجاذبات ومراهنات ومناورات بين من يسعون لجلبه إلى جانبهم وبين الذين يعملون على تحييده.
هذا ما يفسر تتأجّج الصّراعات بداخله بين من يرى أن على الاتحاد المضي قدما في ترسيخ الديمقراطية الداخلية والإستمرار في تطبيق التسقيف، وبين من يرى أنّ تطبيق ذلك الفصل أحدث اختلالا على سير المنظمة ويتطلب المراجعة وأن الأولية هي الحفاظ على صلابة الاتحاد ودوره الريادي وتجنّب المخاطرة في واقع الرّمال المتحرّكة التي تعيشها البلاد.
وبين هذا وذاك تؤكّد القواعد من خلال رسالتها الواضحة من المؤتمر بأنّ قوّة الاتحاد ومكانته وحضوره على السّاحة في الظرف الرّاهن هي الحدود التي يجب أن يقف عندها الجميع والباقي تفاصيل لا ضرر إن تأجّلت لبعض الوقت.
الاتحاد في قلب الزوابع
- بقلم مصطفى بن أحمد
- 10:23 24/02/2022
- 884 عدد المشاهدات
تردّدت كثيرا في الكتابة عن الاتحاد العام التونسي للشغل وعن مؤتمره الأخير، لأنّه من الصّعب جدّا على شخص مثلي نشأ وترعرع وتشكّل